قد يستحق معرض أبو ظبي للكتاب صفة «الدولي» التي ترافق معظم معارض الكتب في العالم العربيّ، فهو يكاد يكون الوحيد الذي تتجلّى فيه هذه الصفة واقعياً وليس افتراضياً كما يحصل في المعارض العربية الأخرى. وبدا هذا المعرض في دورته الحادية والعشرين ماضياً أكثر فأكثر في ترسيخ هذه الصفة، جامعاً فعلاً جمهرة من الكتّاب العالميين ومقدّماً إياهم للجمهور الذي لا يمكن وصفه بالإماراتي والعربي فقط وإنما بـ «العالمي» أيضاً تبعاً لوجود جاليات عدة تشعر أن هذا المعرض يتوجه اليها ويخاطبها بحسب ما يتوافر له من قدرة على هذه المخاطبة. وكعادته في كل دورة دعا المعرض كتّاباً عالميين من أوروبا كما من أميركا وآسيا، عطفاً على الكتّاب العرب الذين أتوا من بلدانهم ومن المغترب الكبير. ولعلّ بعض الأسماء الأجنبية هي من الأسماء الحاضرة في المشهد الأدبي العالمي مثل الكاتب السويدي الشهير جوستين غاردر صاحب رواية «عالم صوفي» والكاتب الجنوب أفريقي بريتان بريتانباخ والكاتب الألماني إنغو شولز والكاتب الفرنسي الكريولي باتريك شاموازو الفائز بجائزة غونكو الشهيرة والكاتب الكوري كيم مين جيونغ، والشاعر التركي ساتشيداناندان والكاتب الفيليبيني فرانسيسكو سيونيل خوسيه... وقد غابت بضعة أسماء كانت مدعوة لأسباب لم يعلن عنها ومنها الروائية كنيزي مراد صاحبة الجذور العثمانية التي ترجمت أعمالها الى لغات عدّة ، والشاعر الفرنسي ميشال دوغي الاسم الحاضر بشدة في حركة الشعر الفرنسي... وثمة أسماء أخرى يصعب إحصاؤها جراء اتساع رقعة اللقاءات والندوات الكثيرة التي لم تكن الأيام الخمسة للمعرض قادرة على استيعابها. لكن كل كاتب كان له متابعوه وكل ندوة أو لقاء كان لهما متابعوهما ولا أقول جمهورهما، فالحضور عموماً كان قليلاً وهذه ظاهرة تنسحب على معظم الأنشطة حتى تلك التي قدمت خلالها مطابخ عالمية أحياها طباخون مباشرة أمام الحاضرين وسمحوا لهم أن يتذوقوا «صحونهم» أو طبخاتهم ساخنة.
وقد يطرح انحسار جمهور اللقاءات والندوات العالمية أسئلة عدة حول أبعاد الصفة العالمية التي رسّخها معرض أبو ظبي: هل يكفي حضور كتّاب عالميين ليكتسب المعرض هذه الصفة؟ الى أي جمهور يتوجه هؤلاء الأدباء الآتون من أنحاء العالم؟ هل يستفيد القراء العرب من هؤلاء الكتّاب؟ هل يتأثرون بهم؟ هل يناقشونهم؟ ثم ما الأثر الذي يتركه هؤلاء في الجمهور الإماراتي والعربي؟ الأجوبة ليست سهلة على مثل هذه الأسئلة الشائكة. لكن جمهور الجاليات الأجنبية التي تتميز بها دولة الإمارات عموماً هو الذي يستفيد من حضور هؤلاء الكتّاب، يحاورهم ويشتري كتبهم ويحظى بتواقيعهم. وهذا ما يحصل في «مهرجان طيران الإمارات» الذي بات يعقد كل عام قبيل افتتاح معرض أبو ظبي. وقد حل الكاتب النيجيري وول سوينكا الحائز جائزة نوبل ضيفاً على الدورة الأخيرة.
لكن «عالمية» معرض أبو ظبي لا تقتصر فقط على حضور الأسماء العالمية بل تشمل أيضاً حركة الترجمة من اللغات الأجنبية الى العربية ومن العربية الى اللغات الأجنبية. وعلى غرار معرض فرانكفورت الذي تساهم إدارته في تنظيم معرض أبو ظبي مع مؤسسات إماراتية أخرى في إشراف هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، يفتح المعرض أبوابه أمام الناشرين الأجانب جامعاً إياهم مع الناشرين العرب بغية إحياء تعاون بينهم، ترجمة ونشراً، وتوقيع الاتفاقات في شأن الكتب التي يختارها الناشرون العرب للترجمة، انطلاقاً من إيفاء الحقوق التي يفترضها نظام النشر العالمي. وهذه بادرة مهمة يقوم بها معرض أبو ظبي تهدف الى مواجهة «القرصنة» التي تمارسها دور عربية كثيرة، والى الارتقاء بحركة النشر والترجمة العربيين الى مرتبة الاحتراف العالمي. وقد شرع المعرض في محاربة «القرصنة» والنشر غير المشروع ورفضت إدارته هذه السنة مشاركة عدد من الدور العربية المتهمة بـ «القرصنة» و «اختلاس» حقوق الترجمة والتأليف بهدف ترسيخ مبدأ «حقوق الملكية الفكرية». وقد لقيت هذه البادرة ترحاباً كبيراً لدى الناشرين الأجانب الذين عانوا الكثير من «القرصنة» العربية وما زالوا يعانون في بضعة بلدان.
أما الناشرون العرب المعنيون بمسألة ترجمة الأدب العالمي فأبدوا سرورهم حيال الاتفاقات التي وقّعوها في شأن الترجمة والتي راعت أزمتهم المالية وشجعتهم على المضي في هذا المشروع الحضاري الذي يحتاجه العالم العربي أيّما احتياج. وبرزت في هذا السياق البعثة الهولندية داعمة إياهم دعماً قويّاً يغطي كلفة الترجمة والنشر...
مشروع «كلمة»
أما مشروع «كلمة» للترجمة المنبثق عن هيئة أبو ظبي وهدفه كما أعلنه عند انطلاقه «إحياء حركة الترجمة في العالم العربي» فاحتلّ واجهة المعرض على عادته. وحملت رفوف أجنحته عناوين الكتب المترجمة التي تزداد عاماً تلو عام والتي تتوزّع بين الآداب والعلوم الإنسانية والعلوم التطبيقية والاقتصاد والسياسة والتنمية وأدب الأطفال... وهي عناوين اختيرت من مكتبات عالمية وكان لها صدى وموقع وردود فعل. كتب ترجمت عن اللغة الأم وليس عن لغة وسيطة، وهذا ما يتميّز به مشروع «كلمة» الذي لا يزال «يانعاً» ويحتاج الى المزيد من الوقت والجهد والمثابرة. أما اللغات التي ترجمت عنها الكتب، فهي: الإنكليزية (أميركا وبريطانيا)، الألمانية، الإيطالية، الفرنسية، البرتغالية، الهندية، الهولندية، والكورية وسواها. إلا أن من يلقي نظرة شاملة على العناوين يلاحظ تفاوتاً في أسماء الكتّاب الذين ترجمت أعمال لهم الى العربية ، وتفاوتاً في نوعية الكتب نفسها ما يشي بحال من «التشتت» في الاختيار وكأنّ المشروع يحتاج الى المزيد من الانصهار والتماسك. فالكتب المترجمة عن الفرنسية، على سبيل المثل، تخلو من منهج في الاختيار، فإذا كان مهماً اختيار كتاب الباحث فيليس داسيتو «اللقاء المعقّد بين الغرب المتعدّد والإسلام المتنوّع» نظراً الى راهنية هذا الكتاب وتعمّقه في معالجة هذا «اللقاء» الحضاري المعقّد، فإن ترجمة رواية «الراهبة» للمفكر الفرنسي التنويري ديدرو الصادرة عام 1760 تبدو «مستهجنة» أو مثيرة للتساؤل: ماذا يعني ان تترجم هذه الرواية التي لا أثر لها في تاريخ الحركة الروائية الفرنسية ويتمّ التغاضي عن أعمال ديدرو الفكرية العظيمة؟ ولا أحد يدري أيضاً لماذا اختير كتاب «إكسر شيئاً من الماء» عن الفرنسية وأهملت آلاف الكتب المهمة؟ لماذا اختير هذا الكتاب المجهول الذي لم تحتفِ به الصحافة الأدبية ولا النقد؟ هذه الملاحظة تسري أيضاً على الكثير من العناوين المختارة من آداب العالم أو ثقافاته. ويمكن هنا استثناء الأدب الأميركي الذي اختيرت منه أعمال مهمّة. وما يمكن أن يلاحظ في بعض الترجمات (خصوصاً عن الألمانية والإيطالية) هو ركاكة الترجمة ووفرة الأخطاء، صرفاً ونحواً، التي تعتري النصوص العربية. وبعض الكتب تستحيل قراءتها من شدة ركاكتها وضعفها وفقدانها المعادل النصيّ للنصّ الأصل. إلا أن مشروع «كلمة» الذي انطلق من وعي أهمية الترجمة والمأزق الذي تعانيه عربياً يظل محطّ أمل وخطوة رائدة في العالم العربي مهما اعترته من هنات. وقد هدف المشروع كما أعلن في أحد بياناته الى «الاستثمار» في مجال الترجمة كمهنة متخصصة من أجل تشجيع المزيد من المترجمين الأكفاء للانخراط في هذه البادرة. وقد يكون هذا «الاستثمار» مؤاتياً جداً في المرحلة الراهنة وستنجم عنه حال من الازدهار تحتاج حركة الترجمة اليها كثيراً.
لكن اللافت ان الكتب التي تصدرها «كلمة» غائبة تماماً عن المكتبات العربية وعن الكثير من معارض الكتب. وهذا يسيء الى المشروع كما يسيء الى القراء العرب الذين يفتقدون هذه الكتب ولا يجدونها في السوق. والخوف، كل الخوف، أن ترقد هذه الكتب في المستودعات فلا تخرج إلا في معارض الكتب التي تقام في الإمارات.
الأيام الخمسة هي قليلة حتماً لمعرض للكتاب مثل معرض أبو ظبي الذي يفيض بالندوات واللقاءات والقراءات والأنشطة الأخرى وبعضها يتوجه الى الأطفال والناشئة وبعضها الى المواطنين العابرين وبعضها الى الجاليات الأجنبية... ناهيك بالمعارض والمحترفات التي ترافق المعرض. خمسة أيام هي بمثابة «عمر» قصير لمعرض بات ينتظره جمهوره - أياً يكن هذا الجمهور - عاماً تلو عام. ويحتاج هذا المعرض الى المزيد من الأيام ليكتمل هدفه ، فهو لا يمكنه أن يكون صورة عن معرض «فرانكفورت» المقصور عموماً على الناشرين، انه أولاً وآخراً معرض للكتاب العربي ومن ثم لجمهور عربيّ يختلف مزاجه عن الجماهير الأجنبية. وقد شهد المعرض هذه السنة احتفاء بالأدب الفرنسي، كما بالأدب الكوري. ولعلها المرة الأولى يشهد فيها جناح الكتاب الفرنسي بعضاً من ازدحام وقد ضمّ أحد الأجنحة «تشكيلة» من كتب فرنسية مهمة ، توزّعت بين الرواية والشعر والعلوم الإنسانية. أما جناح جامعة السوربون فضمّ كتباً متعددة الحقول بحسب ميادين الاختصاص المتوافرة في «سوربون» أبو ظبي.
ولعل اهم ما يميز هذا المعرض هو الغياب شبه التام للرقابة على الكتب وهذا ما جعل الناشرين ينعمون بحرية نادرا ما يعرفونها في المعارض العربية. عبده وازن