إن الدارس لشخصية رسول الله ليجذب نظره ذلك التوازن الدقيق بين معالمها، مما لا يمكن أن تجده في أي بشر سواه، هذا التوازن -الذي يعد من أبرز دلائل نبوته- يتمثل في الكم الهائل من الشمائل ومحاسن الأخلاق التي اجتمعت في شخصيته عليه الصلاة والسلام، على نسق متعادل لا تطغى صفة على صفة، ولا توظف صفة في موقف لا تحتاجه، ولا تليق به، بل لكل مقامٍ مقال، ولكل حالة لبوسها، حتى لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه أو نقص من عقابه؛ إذ كلٌّ منه على أمنية أهل العقل وفكر أهل النظر..
إن الدارس لشخصية رسول الله ليجذب نظره ذلك التوازن الدقيق بين معالمها، مما لا يمكن أن تجده في أي بشر سواه، هذا التوازن -الذي يعد من أبرز دلائل نبوته- يتمثل في الكم الهائل من الشمائل ومحاسن الأخلاق التي اجتمعت في شخصيته عليه الصلاة والسلام، على نسق متعادل لا تطغى صفة على صفة، ولا توظف صفة في موقف لا تحتاجه، ولا تليق به، بل لكل مقامٍ مقال، ولكل حالة لبوسها، حتى لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه أو نقص من عقابه؛ إذ كلٌّ منه على أمنية أهل العقل وفكر أهل النظر..
إنه الكمال البشري الذي يقود المسلمين إلى مزيد من الإعجاب والحب لرسولهم الكريم، مفاخرين الدنيا بأسرها أنهم أتباع سيد البشر.
التوازن النفسي في شخصية الرسول
حُقق التوازن النفسي في شخصية الرسول أسمى غايته، فكان ذو نفس سويَّة، تتمتع بمثالية يدركها من له أدنى معرفة بالسلوك النفسي وأبعاده، فما كان -عليه الصلاة والسلام- بالكئيب العبوس الذي تنفر منه الطباع، ولا بالكثير الضحك الهزلي الذي تسقط مهابته من العيون، ولم يكن حزنه وبكاؤه إلا مما يحزن ويبكي منه العقلاء في غير إفراط ولا إسراف..
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: "وأما بكاؤه فلم يكن بشهيق ورفع صوت، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا ويسمع لصدره أزيز، وكان بكاؤه تارة رحمة للميت، وتارة خوفًا على أمته وشفقة عليها، وتارة من خشية الله، وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال مصاحب للخوف والخشية، ولما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه وبكى رحمةً له وقال: "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
وبكى لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض، وبكى لما قرأ عليه ابن مسعود سورة النساء وانتهى فيها إلى قوله تعالى في سورة النساء في الآية 14: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]. وبكى لما مات عثمان بن مظعون، وبكى لما كسفت الشمس وصلى صلاة الكسوف وجعل يبكي في صلاته وجعل ينفخ ويقول: "رب ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم وهم يستغفرون ونحن نستغفرك". وبكى لما جلس على قبر إحدى بناته، وكان يبكي أحيانًا في صلاة الليل"[1].
أما ضحكه -عليه الصلاة والسلام- فكان يضحك مما يُضحك منه وهو مما يُتعجب من مثله ويستغرب وقوعه ويستندر، كما كان يداعب أصحابه؛ فعن زيد بن أسلم -رضي الله عنه- قال: "أتت امرأة يقال لها أم أيمن إلى النبي فقالت: إن زوجي يدعوك. قال: "ومن هو؟ أهو الذي بعينه بياض؟" قالت: والله ما بعينه بياض. فقال: "بلى إن بعينه بياضًا". فقالت، لا والله! فقال: "ما من أحد إلا وبعينه بياض"[2].
وعن أنس بن مالك أن رجلاً أتى النبي -عليه الصلاة والسلام- فاستحمله، فقال رسول الله: "إنا حاملوك على ولد ناقة". فقال: يا رسول الله، ما أصنع بولد ناقة؟ فقال رسول الله: "وهل تلد الإبل إلا النوق"[3].
التوازن السلوكي في شخصية الرسول
كان التوازن السلوكي في شخصية الرسول أحد دلائل نبوته، فلقد جعل هذا التوازن من رسول الله القدوة العليا التي تمثلت فيها كل جوانب الحياة؛ فهو الأب والزوج ورئيس الدولة، والقائد للجيش، والمحارب الشجاع، كما كان المستشار والقاضي والمربي والمعلم والعابد والزاهد... إلى آخر صفاته -عليه الصلاة والسلام- التي كانت من الخصب، بحيث استوعبت كل جوانب حياة البشر الأمر الذي جعل من رسول الله المثل الأعلى للناس كافة على اختلاف طبقاتهم ومشاربهم، حتى تقوم الحجة على الناس مرتين مرة بالبيان النظري، ومرة بالبيان العملي. وإليك بعض مظاهر هذا التوازن السلوكي:
1- التوازن النبوي بين القول والفعل:
شهدت البشرية في تاريخها الطويل انفصالاً بين المثل والواقع، بين المقال والفعال، بين الدعوى والحقيقة، وكان دائمًا المثال والمقال والدعوى أبر من الواقع والفعال والحقيقة. وهذا شيء يعرفه من له أدنى معرفة بالتاريخ والحياة، غير أن هذه الظاهرة تكاد تكون مفقودة في واقع الرسل وأتباعهم، فهم وحدهم الذين دعوا الإنسانية إلى أعظم قمم السمو، ومثَّلوا بسلوكهم العملي هذه الذروة بشكل رائع مدهش[4].
وظهور هذا التوازن في حياة رسول الله العمليَّة كان على أعلى ما يخطر بقلب بشر، فهو العابد والزاهد والمجاهد والزوج... و... و... الذي ما كان يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له.
فعن عبادته تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: كان النبي يقوم من الليل حتى تنفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا"[5]. وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله يفطر من الشهر حتى نظن ألا يصوم منه شيئًا، ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئًا، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليًا إلا رأيته، ولا نائمًا إلا رأيته"[6].
وعن زهده يروي الإمام أحمد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخلت عليَّ امرأة من الأنصار، فرأت فراش النبي عباءة مثنية، فرجعت إلى منزلها فبعثت بفراش حشوه الصوف، فدخل عليَّ رسول الله فقال: "ما هذا؟" فقلت: فلانة الأنصارية دخلت عليَّ فرأت فرشك، فبعثت إليَّ بهذا. فقال: "رديه". قالت: فلِمَ أرده وأعجبني أن يكون في بيتي؟ حتى قال ذلك ثلاث مرات، ثم قال: "يا عائشة، رديه فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة". قالت: فرددته.
وهو إمام الزاهدين الذي ما أكل على خوانٍ قط، وما رأى شاة سميطًا قط، وما رأى منخلاً منذ أن بعثه الله إلى يوم قُبض، ما أخذ من الدنيا شيئًا، ولا أخذت منه شيئًا، وصدق إذ يقول: "ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب أستظل بظل شجرة ثم راح وتركها".
وأما عن شجاعته وجهاده، فيروي أنس -رضي الله عنه- قال: "كان النبي أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: "لم تراعوا، لم تراعوا"، وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج، في عنقه سيف فقال: لقد وجدته بحرًا". وعن علي -رضي الله عنه- قال: كنا إذا احمرَّ البأس ولقي القومُ القومَ، اتقينا برسول الله، فما يكون منَّا أحد أدنى من القوم منه.
ولولا خوف الإطالة لسردنا شمائله -عليه الصلاة والسلام- التي نادى بها، وعلَّمها أمته، وكان أول الممارسين العمليين لها.
2- الصدق النبوي في الجد والدعابة:
(الصدق صفة أساسية لا بد أن يتمتع بها صاحب الرسالة، هذا الصدق لا بد أن يكون مطلقًا لا يُنقض في أي حال، بحث لو امتحن صاحب الرسالة في كل قول له لكان مطابقًا للواقع إذا وعد أو عاهد أو جد أو داعب أو أخبر أو تنبأ، وإذا انتقضت هذه الصفة أي نقض فإن دعوى الرسالة تنتقض من أساسها؛ لأن الناس لا يثقون برسول غير صادق، والرسول الصادق لا تجد في ثنايا كلامه شيئًا من الباطل في أي حال من الأحوال)[7].
ولقد كان الصدق من أوضح السمات في شخصية رسول الله، وكفى دلالة على هذا الصدق أن قومه لقبوه بالصادق الأمين، بل إن أول انطباع يرسخ في نفس من يراه للمرة الأولى أنه من الصِّدِّيقين؛ فعن عبد الله بن سلام قال: لما قدم النبي المدينة انجفل الناس وقيل قد قدم النبي، وجئت فيمن جاء، قال: فلما تبيَّنت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذَّاب، فكان أول ما قاله: "أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام"[8].
فهو الصادق في وعده وعهده؛ فعن عبد الله بن أبي الخنساء قال: بايعت النبي قبل أن يبعث وبقيت له بقية فواعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك، فنسيت يومي والغد، فأتيته اليوم الثالث وهو في مكانه فقال: "يا فتى، لقد شققت عليَّ، أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك"[9]. وبعد غزوة حنين جلس رسول الله يقسِّم غنائم هوازن، فوقف عليه رجل من الناس فقال: إن لي عندك موعدًا يا رسول الله. قال: "صدقت، فاحتكم ما شئت". قال: أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها. قال: "هي لك، واحتكمت يسيرًا"[10].
وأخرج الحاكم عن حويطب بن عبد العزى في قصة إسلامه، أنه عندما كان مشركًا تولى مطالبة الرسول عن مكة في عمرة القضاء بعد انقضاء الثلاثة أيام المتفق عليها، يقول حويطب: ولما قدم رسول الله لعمرة القضاء، وخرجت قريش من مكة، كنت فيمن تخلف بمكة أنا وسهيل بن عمرو، لكي نخرج رسول الله إذا مضى الوقت، فلما انقضت الثلاثة أقبلت أنا وسهيل بن عمرو فقلنا: قد مضى شرطك، فاخرج من بلدنا. فصاح: "يا بلال، لا تغب الشمس وواحد من المسلمين بمكة ممن قدم معنا".
وما حدث أن وعد رسول الله أو عاهد فأخلف أو غدر، ولقد روى البخاري (أن هرقل لما سأل أبا سفيان عن محمد هل يغدر؟ أجاب لا، فقال هرقل بعد ذلك: وسألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر). بل إنه لا يحيد عن الصدق ولا حتى مجاملة لأحد؛ فعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك، فكان يقبل بوجهه وحديثه عليَّ حتى ظننت أني خير القوم، فقلت: يا رسول الله، أنا خير أم أبو بكر؟ فقال: "أبو بكر". فقلت: يا رسول الله، أنا خير أم عمر؟ فقال: "عمر". فقلت: أنا خير أم عثمان؟ فقال: "عثمان". فلما سألت رسول الله فصدقني، فلوددت أني لم أكن سألته"[11].
وحتى في أوقات الدعابة والمرح حيث يتخفف الكثيرون من قواعد الانضباط، كان رسول الله الصادق في مزاحه؛ فعن أبي هريرة قال: "قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا! قال: "إني لا أقول إلا حقًّا"[12].
3- التوازن الأخلاقي في شخصية الرسول:
من أبلغ وأجمع الكلمات التي وصفت أخلاق رسول الله، ما قالته السيدة عائشة رضي الله عنها: "كان خلقه القرآن". ولقد كانت هذه الأخلاق من السمو والتوازن ما جعل تواضعه لا يغلب حلمه، ولا يغلب حلمه بره وكرمه، ولا يغلب بره وكرمه صبره... وهكذا في كل شمائله صلوات الله وسلامه عليه، هذا مع انعدام التصرفات غير الأخلاقية في حياته.
فعن تواضعه، يروي أبو نعيم في دلائل النبوة عن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله من أشد الناس لطفًا، والله ما كان يمتنع في غداة باردة من عبد ولا من أمة ولا صبي أن يأتيه بالماء فيغسل وجهه وذراعيه، وما سأله سائل قط إلا أصغى إليه أذنه، فلم ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه، وما تناول أحد بيده إلا ناوله إياها، فلم ينزع حتى يكون هو الذي ينزعها منه".
وعن حلمه، يروي البخاري يوم حنين ورسول الله يقسم الغنائم فقال رجل: إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله. فقلت -أي عبد الله راوي الحديث-: والله لأخبرن رسول الله. فأتيته فأخبرته فقال: "من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
وعن كرمه، يروي الشيخان عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "ما سئل رسول الله شيئًا قط فقال: لا". وأخرج أحمد عن أنس أن رسول الله لم يسأل شيئًا على الإسلام إلا أعطاه، قال: فأتاه رجل فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة، فرجع الرجل إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة.
وأخرج ابن عساكر قصة إسلام صفوان بن أمية عن عبد الله بن الزبير قال: وخرج رسول الله قبل هوازن وخرج معه صفوان وهو كافر وقد أرسل إليه يستعيره سلاحه، فقال صفوان: طوعًا أو كرهًا؟ فقال رسول الله : "عارية رادة". فأعاره مائة درع بأداتها، فأمر رسول الله فحملها إلى حنين، فشهد حنينًا والطائف، ثم رجع رسول الله إلى الجعرانة، فبينما رسول الله يسير في الغنائم ينظر إليها ومعه صفوان بن أمية جعل صفوان ينظر إلى شعب ملاء نعمًا وشاة ورعاء، فأدام النظر إليه ورسول الله يرمقه فقال: "أبا وهب، يعجبك هذا الشعب؟" قال: نعم. قال: "هو لك وما فيه". فقال صفوان: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وأسلم مكانه.
4- التوازن النبوي بين الحزم واللين:
(فرغم ما حباه الله به من الحلم والرأفة إلا أنه الحلم والرأفة التي لا تجاوز حدها، فكان يغضب للحق إذا انتهكت حرمات الله، فإذا غضب فلا يقوم لغضبه شيء حتى يهدم الباطل وينتهي، وفيما عدا ذلك فهو أحلم الناس عن جاهل لا يعرف أدب الخطاب، أو مسيء للأدب أو منافق يتظاهر بغير ما يبطن)[13].
فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما ضرب رسول الله بيده خادمًا له قط ولا امرأة ولا ضرب بيده شيئًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خُيِّر بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثمًا، فإذا كان إثمًا كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه حتى تنتهك حرمات الله فيكون هو ينتقم لله"[14]. وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله إذا أتاه الوحي أو وعظ قلت: نذير قوم أتاهم العذاب، فإذا ذهب عنه ذلك رأيته أطلق الناس وجهًا، وأكثرهم ضحكًا، وأحسنهم بشرًا"[15].
ولما نكث بنو قريظة العهد وتحالفوا مع الأحزاب على حرب المسلمين، ثم ردَّ الله كيدهم في نحورهم وأمكن الله رسوله منهم، رضوا بحكم سعد بن معاذ، كما رضيه رسول الله ، فحكم سعد أن تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وزراريهم، فتهلل وجه الرسول وقال: "لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سموات". فقتل رسول الله منهم في يوم واحد أربعمائة رجل.
وروى ابن إسحاق في قصة أسرى غزوة بدر قال: ومنهم أبو عزة الشاعر كان محتاجًا ذا بنات، فقال: يا رسول الله، لقد عرفت ما لي من مال وإني لذو حاجة وذو عيال، فامنن عليَّ. فمنَّ عليه رسول الله، وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحد. فقال أبو عزة في ذلك شعرًا يمدح به رسول الله . ثم إن أبا عزة هذا نقض ما كان عاهد عليه الرسول، ولعب المشركون بعقله فرجع إليهم، فلما كان يوم أحد أُسر، فسأل النبي أن يمنَّ عليه أيضًا، فقال النبي : "لا أدعك تمسح عارضيك وتقول: خدعت محمدًا مرتين"، ثم أمر به فضُرِبت عنقه.
وعن المسور بن مخرمة -رضي الله عنه- قال: خطب عليٌّ بنت أبي جهل وعنده فاطمة، فسمعت بذلك، فأتت النبي فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك، وهذا عليٌّ ناكح ابنة أبي جهل. فقام النبي فتشهد وقال: "أما بعد، فإني أنكحت أبي العاص بن الربيع فحدثني وصدقني، وإن فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها، والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله أبدًا". قال: فترك عليٌّ الخِطْبة.
إنه اللين الذي لا يعرف الخور، والحزم الذي به تكون الرجال، فصلوات الله وسلامه عليه.
لقد سجل لنا التاريخ سير آلاف المصلحين والزعماء الذين عاشوا مناضلين من أجل فكرة أو مبدأ أفاد شعوبهم أو الإنسانية بعامَّة، ولكن لم تجتمع كل المبادئ الطيبة إلا في شخص الرسول في البيت والقيادة والأخلاق والعبادة والكثير من أوجه الحياة التي استنارت بمبعثه، فصلوات الله وسلامه عليه في الأوَّلين والآخرين.