الكون كله ظلمة وإنما أنارَهُ تجلياتُ الحقِّ فيه فمن رأى الكون ولم يشهدَ الله متصرفاً في كل شيء حاضراً عندَ كل شيء خالقاً لكل شي
فقد أعوزه وجود الأنوار وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار .
نسأل الله أن لا يُشغلنا برؤية الكون عن شهود أنوار أحديّة الله وتوحيده والتفكر في جمال خلقه وإبداعه ،ونسأله أن يتجلى ويشرح صدورنا بأنوار التوحيد حتى لا تحجب وتعمى قلوبنا بالانشغال بآثار الدنيا الزائلة وغيومها وسحب أهوائها المتلبدة العاطلة .
أيها الإخوة
{ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ}
أي الله منور السماوات والأرض وخالقها وقيومها وفاطرها .
«الكون كله ظلمة وإنما أناره ظهور الحق فيه»
أي هذه المكونات التي تراها أعيننا وتدركها عقولنا، إنما تتآلف
وتتلاصق أجزاؤها الدقيقة، بواسطة نور داخلي يسري فيما بينها .
ومصدر وخالق هذا النور إنما هو الله عز وجل وذلك لأن هذه المكونات لم توجد بذاتها وإنما وُجِدت بإيجاد الله تعالى لها بل لا يستمر وجودها إلا باستمرار اتصال القدرة الإلهية بها، ومدّها باستمرارية الوجود لحظة فلحظة .
وإن من أهم آثار هذه الحقيقة أن كل ما تقع عليه عيناك من هذه المكونات، فإن النور متغلغل في داخله، ويكسوه حلية في ظاهره .
والنور الذي هو عماد وجود المكونات نوران:
نور تراه العين، ونور يرصده العقل ؟
فأما النور الذي يكشفه العقل، فهو ذاك الذي يسري متغلغلاً داخل أصغر جزيئات المادة، بل هو تلك الإليكترونات المؤلفة من إشعاعات متجمعة، يتكون منها ما يسمونه المادة، وهي في أصلها الذي تكونت منه ليست إلا طاقة كما أثبت العلم الحديث فأصل المادة ومآلها في الوقت ذاته هو النور المخبوء الذي يرصده العقل وإن لم تره العين .
أرأيت إلى كتلة جمر متقد، إن وجوده ليس إلا من الشعلة
الكامنة فيه والسّارية في أجزائه، وعندما تخبو هذه الشعلة
وتغيب، يغيب الجمر معها أيضاً، ويتحول إلى رماد يتناثر بعد ذلك
هباءً وإن قصة المادة الكونية أياً كانت، ليست إلا كقصة هذه
القطعة من الجمر المتقد .
وعندما ينفصل النور الخفي عن دخائل
المادّة وجزيئاتها، فذلك لن يكون إلا إيذاناً بتناثر أجزاء
المادة وتحولها إلى حطام، وهكذا تعود المادة إلى ما يشبه
الرماد بالنسبة للجمر الذي خبت شعلته السارية في داخله .
فلولا إمداد الله ونوره فإن كل شيءٍ سيزول حتماً .
{واضرِب لَهُم مثلَ الحياةِ الدُّنيا كماءٍ أنزلنَاهُ منَ السَّماءِ فاختلطَ بهِ نباتُ الأرضِ فأصبحَ هشيماً تذرُوهُ الرِّياحُ وكانَ اللهُ على كلِّ شيءٍ مقتدراً} .
بقي أن تعلم أن العقل ذاته ليس إلا نوراً يشرق على الدماغ فيتم
به إدراك الحقائق التي لا تخضع للبصر ونوره .
فالإنسان عنده بصر وبصيرة لكل منهما نور متكافئ ومنسجم مع عمله
ووظيفته نور الأول منهما يقف عند مظاهر الأشياء وصورها، ويمخر
الثاني منهما تلك المظاهر والصور ليدرك خفايا الحقائق .
وإذا كان الإبصار بنور العين متوقفاً على وجود نور متكافئ يتمثل في ضياء الشمس ونحوه، فإن الإدراك بنور البصيرة يتوقف في القضايا الغيبية على نور متكافئ معه يتمثل في الوحي الإلهي الذي يكشف للعقل عن حقائق تلك الغيبيات وأخبارها .
إذن فالنور هو سرّ الكون كله.. ولكن من أين انبعث هذا
النور الذي أضفى سرّ الوجود على المكوَّنات؟
ربما تنطع أحدهم فقال: أين هو النور الذي تزعم أنه كامن في
العقل، مع ما نعلمه من أن العقل إنما هو نتاج لنشاط الدماغ
والدماغ بحجيراته ووظائفه ليس إلا مادة خاضعة للنظر والفحص
والتحليل؟والجواب أن الدماغ محل لإشراقات نور العقل، كالشاشة
التي هي محل لإشراق الصور المنعكسة إليها من جهاز الإرسال
والخطأ الذي يقع فيه من يتوهم أن الشاشة هي مصدر الصور
المتألقة والمتحركة عليها، ليس أقل من خطأ من يتوهم أن الدماغ
هو مصدر المعرفة والإدراك.
أما مُمِدُّ نور العقل، و مصدرُ هذا النور الذي أضيء به وتكون منه هذا الكون كله، ألا إنه الله عز وجل؟
وهل بوسع العلم أن يقول لك شيئاً عن مصير هذه المكونات كلها إن انفصل عنها هذا النور، إلا التبدّد والانمحاق؟
الضياء والنور وما تكتنزه المادة من ذلك في داخلها وضمن أصغر ذراتها،
ليس منبثقاً منها، وإنما هو متجه إليها ومتغلغل فيها، من لدن
خالق المكونات كلها، وهو الله عز وجل .
ألا فلتعلم إذن، أن سائر المكونات التي من حولك، وأنت واحد منها، إنما تتألف سداها ولحمتها من نور رباني هابط إليها متغلغل في أعماقها، وأن كل ما تراه عيناك منها أو تدركه بعقلك من دخائلها، فبهذا النور
الرباني تراه، وبهذا النور الرباني تدركه .
اللهم أشرق على قلوبنا أنوار محبتك وحرق قلوبنا بلذيذ مناجاتك
وأدخل البهجة على أرواحنا بشهود سلطان تجليات جمالك وجلالك
وانهض بهممنا إليك واِهدنا بنورك إليك وأقمنا بصدق العبودية بين يديك .
عميت عينٌ لا تراكَ عليها رقيباً وخسرت تجارةُ عبدٍ لم يجعل من حبك نصيباً
اللهم أحينا بسُنة المصطفى واِجعلنا على أثره صلى الله عليه وسلم وعلى أثر صحابته ومن اتصل سنده بهم من العلماء والفقهاء والصوفية المتشرعين والقراء والمحدثين إلى يوم الدين .