أنا إنسان مؤمن بوجود الله ومهما ابتعدت عن الله فإني أعود خاضعاً له ، ولكني أسمع الموسيقى الكلاسيكية وأرى أنها أفضل ما في حياتي ، فهي لا تثير الشهوة ، بل تساعدني على مراجعة نفسي وأخطائي ، وإنني أشعر أن الإسلام دين متخلف عندما أسمع من يقولون إن جميع أنواع الموسيقى حرام .
فما هو رأيكم في إنسان يصلي ويصوم ويدعو غير المسلمين إلى الإسلام ولكنه يسمع الموسيقى الطاهرة الخالية من الخلاعة أو حتى صوت الإنسان ؟.
الحمد لله
أولاً :
سعدنا بمقدمتك وما فيها من بيان إيمانك بالله تعالى ، وأنك مهما ابتعدت فإنك تعود له عز وجل خاضعاً ، وهذه صفة تليق بالعقلاء الذين يخضعون لعظمة ربهم تبارك وتعالى ، والذين يوقنون بضعفهم وعظيم حاجتهم لله تعالى لأن يوفقهم ويهديهم ويسدد خطاهم .
ثانياً :
وآلمتنا بعض العبارات في سؤالك ما كنا نتمنى قراءتها من مثل هذا المؤمن العاقل ، لكننا عندما نتأمل في كثرة الصادِّين عن طرق الخير ، وكثرة المضلِّين والناشرين للفساد نجد أن مثل هذه الأمور قد تكون متوقعة ، لكننا نطمئن أنها سرعان ما تزول وتضمحل .
ومما آلمنا في رسالتك سماعك للموسيقى ، وقولك : إنها أفضل ما في حياتك ! وأنها تساعدك على مراجعة نفسك وأخطائك ! واتهامك للإسلام بالتخلف عندما تسمع تحريم الموسيقى !!
ولو تأملت مثل هذه الجمل والعبارات قبل كتابتها لما كنت تخطها بيدك ، ولا تقولها بلسانك ، أما وقد كتبتها وأرسلتها فلا بدَّ من الوقوف معها انطلاقاً من واجب النصيحة التي أوجبها الله تعالى علينا ، ومن باب عدم كتم العلم الذي حرَّمه الشرع علينا .
1. أما الموسيقى :
فهي في شرعنا محرَّمة غير جائزة ، استعمالاً لآلاتها ، وسماعاً لنغماتها وأصواتها ، وقد قال بالتحريم عامة أهل العلم ، ومنهم أئمة الفقه الأربعة : أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ ) رواه البخاري ( 5590 ) .
وانظر : " السلسلة الصحيحة " للألباني ( 91 ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
فدل هذا الحديث على تحريم المعازف ، والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة ، وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها .
" مجموع الفتاوى " ( 11 / 535 ) .
وقال :
ومن المعلوم أنه لم يكن في القرون الثلاثة المفضلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم : ( خير القرون قرني الذي بعثت فيه ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ) لا في الحجاز ولا في الشام ولا في اليمن ولا في العراق ولا في مصر ولا في خراسان أحد من أهل الخير والدين يجتمع على السماع المبتدع لصلاح القلوب ، ولهذا كرهه الأئمة كالإمام أحمد وغيره حتى عدَّه الشافعي من إحداث الزنادقة حين قال : خلَّفتُ ببغداد شيئاً أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن .
" مجموع الفتاوى " ( 10 / 77 ) .
وانظر جواب السؤال ( 5000 ) و ( 5011 ) .
وقال ابن القيم :
وإذا كان الزمر الذي هو أخف آلات اللهو حراماً فكيف بما هو أشد منه كالعود والطنبور واليراع ، ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك ، فأقل ما فيه أنه من شعار الفساق وشاربي الخمور .
" إغاثة اللهفان " ( 1 / 228 ) .
2. وأما قولك إنها أفضل شيء في حياتك : فهو أمرٌ يدعو للعجب ، فأين أنت من القرآن ؟ أين أنت من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فكيف تفضِّل كلام البشر على كلام الله تعالى ؟ وكيف ترى أن آلات الطرب واللهو أفضل لنفسك وقلبك وعقلك من كلام الله تعالى وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ؟
واعلم – هداك الله وأنار بصيرتك – أنه لا يجتمع في قلب مؤمن قرآن الرحمن وقرآن الشيطان – وهو الغناء – وأنك لم ترَ الموسيقى والغناء أفضل شيء في حياتك إلا لأنك حرِمتَ من قرآن الرحمن ، واعلم بأن الشيطان لم يزين الغناء والمعازف في قلبك وحياتك إلا بعد أن صدَّك عن كتاب الله تعالى ، فيجب عليك المبادرة لإصلاح قلبك ، والرجوع عما أنت عليه لتقوِّي قلبك بطاعة الرحمن وكلامه ، وتذل نفسك لأحكامه تعالى .
قال ابن القيم رحمه الله :
والمقصود : أن الغناء المحرم قرآن الشيطان ، ولما أراد عدو الله أن يجمع عليه نفوس المبطلين قرَنه بما يزيِّنه من الألحان المطربة وآلات الملاهي والمعازف ، وأن يكون من امرأة جميلة ، أو صبي جميل ، ليكون ذلك أدعى إلى قبول النفوس لقرآنه ، وتعوضها به عن القرآن المجيد .
" إغاثة اللهفان " ( 1 / 254 ) .
3. وأما قولك بأن الموسيقى " تساعدك على مراجعة نفسك وأخطائك ! " : فهذا من العجب أيضاً ، وأين هي المراجعة وقد كتبت هذا الكلام والعبارات ؟ فهل راجعت نفسك لمّا قلت : إنها أفضل شيء في حياتك ؟ وإن الإسلام متخلف إن كان يحرمها ؟
هل راجعت نفسك وأخطاءك بالموسيقى فصليتَ الصلاة في أوقاتها ، وصمتَ التطوع ، وصليت بالليل والناس نيام ، ووصلتَ رحِمك ، وبذلك مالك في سبيل الله ، وطلبت العلم الشرعي ... الخ ؟ إننا نجزم أن الموسيقى لا تساعدك على ذلك ، وأن ما فعلته منه فليست الموسيقى هي السبب في وجوده .
واعلم أن التفكر في الموت ، والقبر ، ولقاء الله تعالى ، وما أعدَّه الله للعاصين هو مما يجعل المسلم يراجع نفسه مرات ومرات ، ويصوِّب حياته نحو الأفضل ، ويمحو خطاياه وأخطاءه من حياته ، واعلم – يقيناً – لو أن ما قلتَه له من الحقيقة نصيب لرأيتَ هؤلاء الموسيقيين والمستمعين للموسيقى أحسن الناس وأكثر الناس خلقاً ، فهل الواقع كذلك ؟!
4. وأما اتهامك للإسلام بالتخلف عندما تسمع تحريم الموسيقى من أحد من الناس فهو أخطر ما جئتَ به وكتبته من كلام ، فأنت قرأتَ ما قاله نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلمتَ قول العلماء كافة بمن فيهم الأئمة الأربعة ، فليس لك إلا تكون طائعاً لربك تعالى ، مستجيباً لأمر نبيك صلى الله عليه وسلم ، سالكاً درب من قبلك من جبال الخير والعلم والطاعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، فكيف لك أن تقارن بين حكم الله تعالى وحكمك ؟ وكيف لك أن تهجر طريقاً سلكه خير الناس لتسلك طريقاً آخر مغايراً ليس فيهم أحد من الصالحين ؟
واعلم أن دين الله ليس تبعاً لهوى أحد ، وأن الله تعالى هو الذي خلق الكون والناس ، ويعلم تعالى ما يُصلح حياتهم وآخرتهم ، فأمرهم ونهاهم لما فيه الخير لهم في الدارين .
ثالثاً :
وسرَّنا أن تكون من الدعاة لهذا الدين ، وأن تكون من المصلين الصائمين ، لكننا أردنا لك الخير فما كان من نصيحة وتوجيه فهو لما فيه الخير لك ، فاستمر على عبادتك ودعوتك للإسلام ، وإياك من المعصية ، واحذر هذه الآلات وما معها من فحش الكلام ، فالغناء ينبت النفاق في القلب ، ويمرضه ، ولا يدل على خير ولا ينهى عن شر ، بل على العكس تدعو هذه الأغنيات إلى الحب واللقاء المحرَّم ، وهذه الآلات لو خلت من كلمات فإنها تمرض القلب أيضاً ولا تصلحه .
وقد جعل الله لك خيراً من ذلك وهو كتابه تعالى ، فهو المتكلم به عز وجل ، فاقرأه واستمع إليه من قراء وهبهم الله تعالى حسن الصوت ، وسترى الفرق العظيم في حياتك وقلبك بعدها ، فقد هدى الله تعالى أناساً كانوا كفاراً بسماعهم آيات القرآن الكريم ، فأنت أولى أن تكون من السابقين لتلك الهداية قبل غيرك .
ولك أن تستمع إلى الأناشيد المباحة ، حيث الكلام الحسن ، والحكمة والموعظة ، ولك أن تستأنس بما خلقه الله من أصوات الطير والموج ، فهي التي تريح القلب من الأصوات التي خلقها الله ، لا ما كان من آلات نهى الشرع عن استعمالها .
وقد أفاض ابن القيم رحمه الله في الكلام على الغناء في كتابه " إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان " فاحرص على اقتنائه وقراءته ، وستجد فيه ما يسرك إن شاء الله .
وأخيراً :
وخير وصية لك هي الوصية بتقوى الله تعالى ، وأن تطلب العلم من مظانه الصحيحة ، وأن تكثر من قراءة القرآن وسماعه ممن يحسنون قراءته ، وأن تلح على الله بالدعاء أن يصلح حالك وقلبك .
نسأل الله أن يوفقك لكل خير .
والله الموفق .