إذا كتبنا تاريخاً فلنكتب هكذا
علم كتابة التاريخ
بقلم الدكتور اسعد صوما اسعد - ستوكهولم
مقدمة:
لقد كثر المؤرخون وكتاب التاريخ بين صفوف أفراد شعبنا، وهذا مفرح للغاية وإن دلّ على شيء فإنه يدل على أهمية التاريخ بالنسبة لشعبنا، وإدراكه أهميته في تحديد ثقافتنا وهويتنا. وتُشكر غيرة الأخوة الكتاب الذين يبحثون عن ماضينا (تاريخنا) ويجهدون أنفسهم في تقديمه لأفراد شعبنا ليصبح الركيزة التي تبنى عليه ثقافتنا الصحيحة وتطلعنا للمستقبل. لكن إن كتبنا شيئاً يتعلق بتاريخ أجدادنا فعلينا الرجوع للوثائق الهامة التي خلفها لنا أجدادنا لأنها أهم مصدر Main source لنا للكتابة عنهم بصدق وأمانة وصحة. كما إنه ينبغي أن نراجع كل البحوث العلمية الجديدة التي أُجريت عنهم وهو ما نسميه في التعبير الاكاديمي بـ Secondary source.
ما هو الـتـاريــخ:
نعني بلفظة “تاريخ” ثلاثة أمور رئيسية: أولاً- الماضي، ثانياً- معرفة ذلك الماضي، وثالثاً- إجراء أبحاث علمية منهجية عن عملية درس وكتابة ذلك الماضي وأحواله، أي ما نسميه “بعلم كتابة التاريخ“Historiography .
التاريخ علم مثل أنواع العلوم الانسانية الأخرى له نظمه ومعايره التي تضبطه. وفي مادة “التاريخ” التعليمية هناك تفرعات ومجالات متنوعة، لكن المجال التاريخي الذي يهم مختلف فرق شعبنا اليوم هو “علم تاريخ السريان وحضارتهم “Syrology الذي يبحث في حضارة أجدادنا السريان من مشارقة ومغارية ويدرس تاريخنا ولغتنا السريانية (الفصحى) التي استعملها ويستعملها وكتب فيها تراثه وأدبه ومعظم كتاباته، ويسمى المتخصص في هذا المجال Syrologist لكن بعض الجامعات تسميه Syriac scholar.
وهنا ينبغي ألاّ نخلط بين الاختصاصين المختلفين Syrology علم السريانيات و Assyriology علم الآشوريات، إذ بينما يبحث الأول في “السريان ولغتهم السريانية وحضارتهم”، يبحث الاختصاص الثاني في تاريخ السومريين والأكاديين والآشوريين والبابليين وغيرهم، أي هو تاريخ شعوب العراق القديم وحضاراتها ولغاتها المدونة بالخط المسماري. لاحظ إن علم “الآشوريات” ليس فقط تاريخ الآشوريين القدماء كما توحي تسمية “أسّيريولوجي”، إنما تاريخ الآشوريين القدماء وحضارتهم جزء منه فقط.
التاريخ هو علم دراسة الوثائق المكتوبة وتحليلها ومقارنتها لاستنطاق الأحداث الماضية التي تتحدث عنها، واستخلاص المجريات التاريخية المتعلقة بها، لاستنباط أسبابها ونتائجها بعد إعادة تركيب كل أجزاء الوقائع والأحداث التي ترويها الوثائق، ووضعها في إطارها التاريخي الصحيح ضمن الظرف المحدد للسياق العام للحدث، والزمن الذي وقعت فيه. كل هذا لأجل كتابتها مجدداً بصورة موضوعية “بكتاب تاريخ” يروي “حقيقة” وقوعها وظروف نشأتها، مستفيدين من المعلومات الجديدة التي قد نحصل عليها أيضاً من الاكتشافات الأثارية الحديثة.
يتعاطى التاريخ إذاً مع الماضي لمعرفة الواقع الماضي من خلال الآثار التي خلفها لنا الناس في ذلك الماضي، ودرسه ووصفه وإجراء بحوث ودراسات عنه.
إن آثار الماضي متنوعة تقتضي مناهج مختلفة لفهمها وشرحها وتفسير ملابساتها بشكل علمي، كما إن اهتمام الناس بمعرفة الماضي والوقوف على أحوال ماضيهم وماضي غيرهم من الشعوب قديم جداً.
والاهتمام بالماضي كان ولا زال موجوداً لدى مختلف الشعوب والثقافات، حيث يظهر في أساطيرها وحكاياتها وملاحمها الشعبية ونصوصها الدينية وتقاليدها ورموزها التي خلفتها للأجيال العتيدة. كان التاريخ المبكر في عمر الانسان يحصل شفهياً، وظلت التقاليد الشفهية تروي أجزاء من تاريخ الشعوب.
ولا يزال التاريخ الشفهي هاماً لدى بعض الشعوب التي تفتقد إلى الكتابة أو لدى الاشخاص غير المتعلمين كما هو الحال لدى بعض الشعوب الافريقية. لكن أهم آثار الماضي لفهم ذلك الماضي هي الكتابات التي خلفها الانسان في الماضي، فأضحت أهم مصدر لمعرفة أحواله. وقد وصلتنا نصوص كتابية قديمة جداً تشكل مادة تاريخية في غاية الاهمية. ويبلغ عمر اقدم الكتابات المدونة حوالي خمسة آلاف سنة، خاصة تلك التي وصلتنا من منطقة الشرق الاوسط.
الوثائق التي يجب الاعتماد عليها في كتابة التاريخ:
وللتحري عن تاريخ أي حدث أو تاريخ شعب ما ينبغي دراسة ثلاث مجموعات من الوثائق إن توفرت:
1- الوثائق التي خلفها الشعب ذاته عن نفسه مسجلاً أحداثاً هامة من تاريخه وأمجاده التي يعتز بها، محاولاً حفظها في مخزن ذاكرته المدونة والشفهية ليخلفها للأجيال اللاحقة. وفي هذه الحالة قد تكون هذه الوثائق مشحونة بالمبالغات في وصف الذات. ومن الكتابات الشهيرة في هذا المجال الكتابات العربية القديمة حيث تراها مليئة بالمبالغات والخرافات.
2- الوثائق التي كتبها أعداء ذلك الشعب في حديثهم عن علاقتهم غير الودية معه، وقد تكون بعض هذه الوثائق مجحفة بحق ذلك الشعب لأنها ربما دونت للنيل منه، ولتنتقص من قيمته أو لتنتقم من انكساره وانهزامه في الوقائع الحربية والسياسية أو للشماتة به والتشفي منه.
3- الوثائق التي دونتها الشعوب المحايدة عن ذلك الشعب في معرض حديثها العابر عنه أو ذكر أخباره كما سمعوها أو قرؤوا عنها، فكتبوا ما رأوه مناسباً من وجهة نظرهم.
وربما نصادف شيئاً من الكلام التاريخي في كتب أخرى جديدة تختص بمجالات آخرى من العلوم كاللاهوت مثلاً، لكنها لا تعتبر من المراجع الرئيسية التي ينبغي الاستشهاد بها كمصدر اساسي، لكن يمكن الاستئناس بها لأنها مراجع ثانوية Secondary sources كما إن الأقاويل والتعليقات الشفهية الشخصية المعاصرة عن موضوع تاريخي لا تعتبر من الوثائق ليستشهد بها ولا يهم إن كانت صحيحة أم لا.
نـقـد الـوثائـق التاريخية:
لكن المشكلة لا تنتهي عند ذلك، لأننا عند الرجوع إلى الوثائق القديمة للاستشهاد بها قد نُصدم بعثرات كبيرة، منها أن بعض تلك الوثائق تتضمن الكثير من المبالغات في وصف الأشخاص والأحداث بشكل اسطوري خرافي، ومنها كتبت عمداً لتزوير الحقائق ولتختلق أحداثا متناقضة، لذلك ينبغي على كاتب التاريخ إخضاع تلك المصادر المدونة إلى عملية نقد الوثائق العلمي الدقيق وهو ما نسميه Criticism of sources تبعاً للمعايير المتعارف عليها بين المؤرخين العلماء. وهنا قد تسقط بعض الوثائق أو أجزاء من وثيقة معينة لأنها لم تصمد أمام هذا النقد العلمي، حينذاك على الكاتب والمؤرخ أن يحترس منها ويتحفظ في استعمالها.
والفرق بين المؤرخ المتخصص والكاتب الهاوي هو أن المتخصص يستعمل الوثائق ويحللها ويعرف كيف ينقدها ويستعملها بشكل صحيح، أما الهاوي قد لا تهمه قضية المصادر ونقدها إنما يسترسل في الرواية.
وتاريخ أي شعب من شعوب العالم قد يضم بين دفتيه صفحات بيضاء ناصعة مشرقة يفتخر بها وأخرى سوداء قد يخجل منها. لكن عند كتابة ودراسة تاريخ شعب ما فَان، فإن هذه يتطلب ذكر تاريخه بصفحاته البيضاء والسوداء على حد سواء. إذ لا يعتبر التاريخ تاريخاً إن لم يضم كل فصول حكاية تاريخ ذلك الشعب بايجابياته وسلبياته. لكن الدراسة الحقيقية لتاريخ شعب ما أو أمة ما لا تكتمل بمعزل عن دراسة تواريخ الأمم المجاورة التي تتداخل مع تاريخ هذه الأمة. وقلما نجد دولة أو أمة ما يمكن الاكتفاء بدرس تاريخها بمفرده لنحصل على فكرة كاملة عن تاريخها الكلي، أي إننا لا نستطيع فهم الجزء إن لم نأخد الكل بعين الاعتبار.
حـيـاديـة الـمـؤرخ:
ولما كان التاريخ دراسة ما قد حصل ومضى، فلا يحق لكاتب التاريخ أبداً أن يدع تقييماته وأفكاره المسبقة وعواطفه وانتماءاته القومية أو السياسية أو الدينية أن تسيطر عليه وتستحود على تفكيره وتحليله للتاريخ، فيمدح من يشاء ويذم من يشاء. كما لا يحق له البتة أن يدين الأحداث التاريخية أو يبرئها لأنه ليس قاضياً لمحاكمة أحداث الماضي التي ليست من طبيعة عمله الموضوعي، بل إن عمله يجب أن يشبه عدسة المصور التي تلتقط الأحداث وتصورها تقريباً كما هي لا كما يرغب هو أن يراها أو يتمناها. وكل حدث نكتب عنه ينبغي إسناده إلى وثائق تاريخية ومصادر علمية، وكل حدث غير مسند إلى وثائق ومصادر مشكوك بأمره ولا يؤبه به.
المغالاة في الرجـوع إلى الـتـاريـخ:
وأغلب الشعوب المتخلفة ذات الحاضر السيء والمستقبل الغامض تفكر كثيراً بتاريخها إن كان تاريخها غنياً حافلاً بالأخبار التي يعتز بها، فيكون الحنين إلى التاريخ واللجوء إليه وسيلة لتعزيتها عن واقعها السيء كما يفعل السريان. لكن الشعب الذي يفكر كثيراً بتاريخه ويحن إليه بشكل مفرط يبقى أسير شرنقة التاريخ، وهذا قد يعيقه عن التفكير بحاضره ومستقبله والتقدم مثلما تفعل الشعوب العربية. لأن المبالغة في اللجوء إلى التاريخ تتركه يتقوقع على ذاته أكثر وتزيد من عزلته ومن حالة الهروب من واقعه “السلبي”، وهنا يصبح التاريخ عبئاً ثقيلاً ينهك أصحابه “المخذولين” لأنه يؤثر على حاضرهم وقد يقود مستقبلهم أيضاً فتصيبهم الاحباطات.
أما الشعوب المتقدمة والمتحضرة، كالأمم الأوروبية مثلاً، فلا تفكر بتاريخها إلا ما ندر وبشكل عفوي وبسيط جداً. وتاريخها لا يؤثر مطلقاً على حاضرها ومستقبلها. لقد دخلت أوروبا في قرن العشرين في حربين طاحنتين كلفتها عشرات الملايين من الأرواح البشرية وتغيرت معها معالم خارطتها السياسية وحدودها عدة مرات: لكننا نجد هذه الأمم الأوروبية قد نسيت تاريخها العدائي تجاه بعضها البعض ودخلت في اتحاد للأمم الأوروبية. كما إن شباب أوروبا لا يعرفون اليوم شيئاً عن تاريخ أمجاد أجدادهم وحروبهم وهذا مربط قوتهم ودافع تقدمهم. إن المغالاة في التفكير بالتاريخ قد تقود إلى العنصرية البغيضة، وما أكثر الشعوب العنصرية التي تحب نفسها وتكره الآخرين وخاصة في دول العالم الثالث.
وقد يتحول التاريخ إلى أداة قمعية في يد حاكم طاغية لا يتورع عن سحق شعب آخر هيمن عليه واستعمره، وذلك بإدابة خصوصيات شخصيته وإلغائه عن طريق إلغاء تاريخه المغاير لتاريخ الحاكم وإعطائه قومية وتاريخ هذا الحاكم بدلاً منه، كما فعل ويفعل بعض الحكام في الشرق الأوسط. وكل حاكم مستبد يقلقه تاريخ الشعب الأقدم في منطقته وبلده، فيعمل جاهداً لإذابة ذلك الشعب وإلغاء ذاكرته عن طريق إلغاء تاريخه وإعطائه تاريخ الحاكم بدلاً منه، فينسى هذا الشعب من كان ويصبح من قطعان الحاكم.