السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
موقعة اليرموك
في السنة الخامسة عشرة من الهجرة النبوية الشريفة، وفي آخر خلافة أبي بكر الصديق ، وفي أثناء قيام الجيوش الإسلامية بفتح بلاد الشام، وتعبيد الناس لله ، بلغ هرقل أمر خروج المسلمين لمقاتلة الروم، فقال لهم: "ويحكم إن هؤلاء أهل دين جديد، وإنهم لا قبل لأحد بهم، فأطيعوني وصالحوهم على نصف خراج الشام، وإن أبيتم أخذوا منكم الشام، وضيقوا عليكم جبال الروم"، فنخروا من ذلك نخرة حمر الوحش، فعند ذلك أمر هرقل بخروج الجيوش الرومية بصحبة الأمراء في مقابلة كل أمير من المسلمين بجيش كثيف..
فبعث إلى عمرو بن العاص أخًا له لأبويه "تذراق" في تسعين ألفًا من المقاتلين، وبعث جرجة بن توذرا إلى ناحية يزيد بن أبي سفيان في خمسين أو ستين ألفًا، وبعث الدراقص إلى شرحبيل بن حسنة، وبعث القيلقلان في ستين ألفًا إلى أبي عبيدة بن الجراح، وجميع الجيش الذي مع المسلمين واحد وعشرون ألفًا سوى الجيش الذي مع عكرمة بن أبي جهل، وكان واقفًا في طرفي الشام في ستة آلاف..
فكتب الأمراء إلى أبي بكر وعمر يعلمونهما بما وقع من الأمر العظيم، فكتب إليهم أن اجتمعوا وكونوا جندًا واحدًا والقوا جنود المشركين فأنتم أنصار الله، والله ناصر من نصره، وخاذل من كفره، ولن يؤتى مثلكم عن قلة، ولكن من تلقاء الذنوب، فاحترسوا منها، وليُصَلِّ كل رجلٍ منكم بأصحابه..
وقال الصديق : "والله لأشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد"، وبعث إليه وهو بالعراق ليقدم إلى الشام؛ ليكون أميرًا على من به، فاستناب خالد المثنى بن الحارثة على العراق، وسار في ستة آلاف وخمسمائة.
وسارت الروم فنزلوا الواقصة قريبًا من اليرموك، وصار الوادي خندقًا عليهم، ونزل المسلمون قريبًا من الروم في طريقهم الذي ليس لهم طريق غيره، فقال عمرو بن العاص: "أبشروا أيها المسلمون، فقد حُصرت الروم، وقلما جاء محصور بخير"..
وعندما وصل خالد إلى معسكر المسلمين, كان الروم قد وصل إليهم مدد وفيه القساوسة والشمامسة والرهبان يحثونهم ويحرضونهم على القتال لنصر دين النصرانية، فتكامل جيش الروم أربعين ومائتي ألف منهم ثمانون ألف فارس، وقَدِمَ عكرمة بمن معه من الجيوش، فتكامل جيش الصحابة ستة وثلاثين ألفًا إلى أربعين ألفًا..
وأمَّرَ المسلمون عليهم خالد بن الوليد، فخرجت الروم في تعبئة لم يُرَ مثلها قط, وخرج خالد في تعبئة لم تعبِّها العرب قط، فخرج في ست وثلاثون كردوسًا إلى الأربعين، كل كردوس ألف رجل, عليهم أمير، وجعل أبا عبيدة في القلب، وعلى الميمنة عمرو بن العاص ومعه شرحبيل بن حسنة، وعلى الميسرة يزيد بن أبي سفيان، وعلى الطلائع قباش بن أشيم..
وعلى الغنائم عبد الله بن مسعود، والقاضي يومئذٍ أبو الدرداء، وقاصّهم الذي يعظهم ويحثهم على القتال أبو سفيان بن حرب، وقارئهم الذي يدور على الناس, فيقرأ الأنفال وآيات الجهاد المقداد بن الأسود، ومعهم معاذ بن جبل ونفاثة بن أسامة الكناني، وعلى الرحّالة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعلى الخيالة خالد بن الوليد, وهو المشير في الحرب الذي يصدر الناس كلهم عن رأيه.
ولمّا أقبلت الروم في خيلائها وفخرها، وقد سدت أقطار تلك البقعة سهلها ووعرها كأنها غمامة سوداء يصيحون بأصوات مرتفعة، ورهبانهم يتلون الإنجيل ويحثونهم على القتال، وكان خالد في الخيل بين يدي الجيش, فساق بجيشه إلى أبي عبيدة, فقال له: "إني مشير بأمر"، فقال: "قل ما أمرك الله أسمع لك وأطيع"، فقال له خالد: "إن هؤلاء القوم لا بد لهم من حملة عظيمة لا محيد عنها، وإني أخشى على الميمنة والميسرة، وإني قد رأيت أن أفرق الجيش فرقتين وأجعلها وراء الميمنة والميسرة, حتى إذا صدموهم كانوا لهم ردءًا, فنأتيهم من ورائهم"، فقال له: "نعم ما رأيت"..
فكان خالد في أحد الخيلين من وراء الميمنة، وجعل قيس بن هبيرة في الخيل الأخرى، وأمر أبا عبيدة أن يتأخر عن القلب إلى وراء الجيش كله؛ لكي إذا رآه المنهزم استحيا منه ورجع إلى القتال, فجعل أبو عبيدة مكانه في القلب سعيد بن يزيد أحد العشرة المبشرين بالجنة.
ولمّا تراءى الجمعان وتبارز الفريقان، وعظ أبو عبيدة المسلمين، وخرج معاذ بن جبل على الناس فجعل يذكرهم، ووعظ عمرو بن العاص وأبو سفيان وأبو هريرة, وكان فيمن شهد اليرموك الزبير بن العوام .
وخرج ماهان فأمر صاحب الميسرة -وهو البريجان- فحمل على الميمنة, فثبتوا حتى صدوا أعداء الله، ثم ركبهم من الروم أمثال الجبال، فزال المسلمون من الميمنة إلى ناحية القلب، وانكشف طائفة من الناس إلى العسكر، وثبت صور من المسلمين عظيم يقاتلون تحت راياتهم, ثم تنادوا فتراجعوا وحملوا حتى نهنهوا[1] مَن أمامهم مِن الروم, وأشغلوهم عن اتباع من انكشف من الناس, فتراجع الناس إلى مواقفهم، وقال عكرمة بن أبي جهل: "قاتلت رسول الله في مواطن وأفر منكم؟!"..
ثم نادى من يبايع على الموت فبايعه عمه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم, فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعًا جراحًا، وقُتِلَ منهم خلق، منهم: ضرار بن الأزور، وعكرمة وابنه عمرو، وسلمة بن هشام، وعمرو بن سعيد، وهشام بن العاص، وعمرو بن الطفيل، وقُتِلَ في هذا اليوم من المسلمين ثلاثة آلاف.
وكان أول من قُتِلَ من المسلمين في ذلك اليوم، رجل جاء إلى أبي عبيدة فقال: "إني تهيأت لأمري فهل لك من حاجة إلى رسول الله ؟". قال: "نعم، تقرئه عني السلام, وتقل: يا رسول الله، إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا"، ثم تقدم هذا الرجل فقاتل حتى قُتِلَ رحمه الله.
وحمل خالد بمن معه من الخيّالة على الميسرة التي حملت على ميمنة المسلمين، فقتل من الروم في حملته هذه ستة آلاف، ثم اعترضهم فحمل بمائة فارس معه على نحو من مائة ألف, فما وصل إليهم حتى انفضَّ جمعهم, وحمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد، فانكشفوا وتبعهم المسلمون..
وبينما هم في جولة الحرب وحومة الوغى، جاء البريد فدفع إلى خالد بن الوليد فقال له: "ما الخبر؟"، فقال له فيما بينه وبينه: "إن الصديق قد تُوفي واستخلف عمر, واستناب على الجيوش أبا عبيدة عامر بن الجراح"، فأسرها خالد ولم يبد ذلك للناس.
وأسلم جرجة -أحد أمراء الروم الكبار- واغتسل وصلى ركعتين وقاتل مع خالد، وتراجعت الروم إلى مواقفهم، وزحف خالد بالمسلمين حتى تصافحوا بالسيوف, فضرب منهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب, وصلى المسلمون صلاة الظهر وصلاة العصر إيماء، وأصيب جرجة -رحمه الله- ولم يصلِّ لله إلا تلك الركعتين مع خالد , وتضعضعت الروم عند ذلك..
ثم نهض خالد بالقلب حتى صار في وسط خيول الروم، فعند ذلك هربت خيالتهم واشتد بهم الحال في الصحراء، وأخّر الناس صلاتي المغرب والعشاء حتى تم الفتح، وعمد خالد إلى رحل الروم وهم الرجّالة ففصلوهم عن آخرهم, حتى صاروا كأنهم حائط قد هُدم، ثم تتبعوا من فر من الخيّالة..
واقتحم خالد عليهم خندقهم فقتل منهم مائة ألف وعشرون ألفًا سوى من قُتِلَ في المعركة، وتجلل القيلقلان وأشراف من قومه من الروم برانسهم وقالوا: "إذا لم نقدر على نصر دين النصرانية فلنمت على دينهم"، فجاء المسلمون فقتلوهم عن آخرهم..
وثبت يومئذٍِ يزيد بن أبي سفيان، وقاتل قتالاً شديدًا، وقال سعيد بن المسيب, عن أبيه: "هدأت الأصوات يوم اليرموك، فسمعنا صوتًا يكاد يملأ العسكر: يا نصر الله اقترب، الثبات الثبات يا معشر المسلمين"، فنظرنا فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد، وقد اتبع خالد من انهزم من الروم حتى وصل إلى دمشق، فخرج إليه أهلها فقالوا: "نحن على عهدنا وصلحنا"، ثم تبعهم إلى ثنية العقاب فقتل منهم خلقًا كثيرًا، ثم ساق وراءهم إلى حمص فخرج إليه أهلها, فصالحهم كما صالح أهل دمشق..
وانتهت الروم منهزمة إلى حمص والمسلمون في آثارهم يقتلون ويأسرون ويغنمون، فلمّا بلغ الخبر هرقل أرسل من حمص وجعل بينه وبين المسلمين وترّس بها، ولمّا قدمت الروم منهزمة إلى هرقل وهو على أنطاكية قال: "ويلكم! أخبروني عن هؤلاء القوم أليسوا بشرًا مثلنا؟"، قالوا: "بلى"، قال: "فأنتم أكثر أم هم؟"، قالوا: "بل نحن أكثر منهم أضعافًا في كل موطن"، قال: "فما بالكم تنهزمون؟!"، قال شيخ من عظمائهم: "من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم"، لأجل ذلك كانوا ملوك الأرض وأسياد الناس.
فهل نعود إلى ديننا فيعود إلينا المجد والعز؟!!