السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
خارج مدار الجاذبية!
هكذا كانت الأرض:
منبسطة تماماً وأنا أسير عليها. وليست كما أثبت العلماء والفلكيون حول كروية الأرض!
كانت تمتدُّ بي إلى ما لا نهاية.
ومهما بلغت خطاي من سرعة أو تثاقلت: لا أرى أمامي إلا بعداً لا يتناهى. ومع ذلك كان هدفي الوصول إلى ذلك الشيء البعيد وكشف الستار عن المجهول.
ومضيت قدماً نحو الأمام بعزيمة وإصرار، دون أن أتعثر بصخرة مجنونة أو يمنعني جبل عنيد أو يجبرني قاهرٌ على ركوبه، وليس هناك سهل ولا وادٍ أو تل يعطل سيرَ رحلتي.
لأن الأرض كانت منبسطة تماماً، خالية من كل التضاريس.
هكذا كانت الأرض بالنسبة إلي، لا وجود لكرويتها، حيث أثبته الفلكيون.
وتأكد أن لها ما يسمى جبالاً شاهقات، وسهولاً وأودية وبحوراً عميقة، وأكثر من ذلك حدوث زلازل فيها وبراكين مدمرة.
إنها سلسلة من التضاريس تنتشر على هذه الأرض.
ولكن أرضي تختلف تماماً عن هذه الأرض.
وتمنيت لو طالت بي الرحلة إلى ما لا نهاية، قبل أن يدركني الصباح وأصحو من حلمي الوردي.. عندئذ نظرت إلى الإنسان السر، الإنسان هذا المخلوق العجيب. عجيب في كل شيء: تصرفاته، سكناته، وانفعالاته.
لقد صحوت من حلمي الوردي لأصطدم (بالإنسان) دون الجبل، أغرق في أعماقه دون البحر. إنه الإنسان بطبائعه المألوفة، بطيبته وعدوانيته، بعطفه وقسوته، بصدقه وكذبه، بكل ما فيه من طبائع البشر.
وعندما بحثت في أمره وجدت أنه (ابن الأرض) كسب صفاته من الأرض (الأم).
ورث من صلابتها القوة، ومن جبالها الصمود، ومن اختلاف تضاريسها ميولَه وتقلباته.
هذا هو الإنسان ابن الأرض.
لقد صحوت من حلمي الوردي - وليتني لم أصحُ - لتظل الأرض منبسطةً نقيةً خاليةً من كل ما يعرقل أي رحلة عليها من تضاريس، ولتبقى منبسطة دون أن تتأثر بعوامل التعرية، مهما توالت عليها السني،ن ومهما سعى فوقها الإنسان والحيوان دون أن تبقى آثار أقدامها عليها. ولكان الإنسان أيضاً نقياً في طباعه وسلوكياته، لا يؤثر فيه ما يهبُّ من حوله من تيارات جارفة، ولا يغيره مرور الزمن عليه. يبقى لأصله إنساناً، صاحب فطرة سليمة، كما أراد له خالقه.
ولكنه تغير وغيَّر ما حوله، وهيهات بين الحلم والحقيقة.
لماذا يا بدر؟!
لماذا يا بدر؟
تهبط إلى عالمنا المتسربل بالظلام، تطل علينا وتضيء الأمل فينا، تذيقنا طعم النور ثم تغيب خلسة؟
ما أروع حين تطلُّ، وما أوحشنا حين تغفل..!
تجيء وكأنك المطر المغيث لليالي أرضنا، وكأنك قطر الندى لأزهار حياتنا، ثم لا تلبث أن تتركنا وتهجر عالمنا.
تتركنا بعد أن تعلقت بنور وجهك الوضاح أبصارُنا، وافتتنت بحسنك السادل علينا قلوبُنا، بعد أن لامست خطوطُك الساحرةُ مشاعرَنا، وبات صريعَ عشقك أكثرُنا.
يا بدر: الشاعر منَّا فيك قد تغنى، ومسلوب الفؤاد إليك يأوي، يناجي ويبحث عن وجه الحبيب في ثناياك.
وأنت لاهٍ في سَماكَ، فاتن، ساحر تتأرجح في العُلا من المغيب حتى اقتراب المشرق.
لماذا يا بدر؟
لا تسكن أرضنا وتقيم في عالمنا أبداً، تداوي جرح الليالي المعتمات، وتواسينا من وحشة أصابتنا لفرقاك؟!
لماذا لا تكون معنا أبداً، سامراً معنا، روحاً لأجسادنا وبلسماً لنا من كل سقم، ومن جور الأحبة لنا؟!.. لماذا يا بدر، لماذا؟!
ولكن.. تظل عالقاً هناك في الأفق البعيد، لا تبالي بشيء، لا أحد ينهاك، ولا تنتظر أمراً.. تبدو كعروس في ليل زفافها، تتسابق الأنظار إليها.
ثم في غمرة لهونا فيك وسعادتنا بك.. تغيب عنا!
بل تودّعنا وتذهب لتزيدنا شوقاً إليك وتعلقاً أكثر، بعد أن تتركنا في مرفأ الانتظار ساعات طِوالاً تكاد لا تنقضي.
ونبقى على شواطئك ننتظر.
ننتظر مهما بعدت المسافة وتحجرت الساعات.
ننتظر السفينة.
سفينة البدر المشرقة.
ممآ تصفحت