يثير شهر رمضان مع قدومه مشاعر سرور وبهجة لدى المسلمين، وأهم تلك المشاعر يقظة في الضمير تنمي الوازع الديني والأخلاقي وتدفع المسلم لممارسة العبادات وتلافي التقصير الذي درج عليه في أيامه العادية، ولئن كانت بعض هذه المستجدات في سلوك المسلم الرمضاني ترجع إلى العادات والتقاليد الاجتماعية في هذا الشهر الفضيل، فإن الوازع الأهم ديني بالدرجة الأولى؛ لأن المحور في ذلك هو الصوم وهو فريضة فردية يمارسها المسلم وكل المستجدات تنبثق عنها.
لكن المظاهر الإيجابية في سلوك المسلمين في رمضان لا تعكس وعياً بدور الصوم في بناء شخصية المسلم والمجتمع وتصحيح الأخطاء السلوكية والاجتماعية في حياة المسلمين، فمن المهم في هذا المجال أن يطرح المسلم أسئلة على نفسه يعيد من خلالها ترتيب أولوياته وتقويم تصوراته وسلوكياته، ومن هذه الأسئلة:
ماذا يعني أن أكون مسلماً؟
وماذا يترتب علي من مسؤولية نتيجة كوني مسلماً؟
وما دور الصوم في أدائي لواجبي كمسلم؟
هذه الأسئلة هي ما سنحاول الإجابة عليه في هذه المقاربة:
الإسلام .. عهد ومسؤولية
أن يعلن الإنسان أنه مسلم فهذا يعني أنه يحمل التزاماً وميثاقاً بينه وبين الله، وذلك بأداء ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، فالإسلام دين الله الذي ارتضاه، قال تعالى: ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا[ [المائدة:3]، وقال تعالى: ] إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [ [آل عمران:19] ولن يقبل غيره ]وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ[[آل عمران:85].
--------------------------------------------------------------------------------
اقترن الإيمان في القرآن بالعمل باعتبار أن الإيمان علم وأسّ، والعمل بناء وحقهما أن يتلازما.
--------------------------------------------------------------------------------
فالتوحيد والانقياد لحكم الله هو الإسلام، وهذا يشير إلى سلوك ظاهري والتزام مادي وعملي يدل عليه، وهو يقابل الإيمان الذي يشير إلى أمر يتعلق بالقلب والفكر والنظر، فالإيمان اعتقاد صادق ويقيني، وبه تحصل سكينة النفس، وهو مقابل لمعنى الإسلام الذي يرتبط بالسلوك والظاهر، لذلك اقترن الإيمان في القرآن بالعمل (1) باعتبار أن الإيمان علم وأسّ، والعمل بناء، ولا غناء للأسّ ما لم يكن له بناء، كما لا بناء ما لم يكن له أسّ، فإذاً حقهما أن يتلازما لذا قرن بينهما(2).
فالإيمان والإسلام بمعنى الدين الذي ندين به هو تسليم النفس والقلب لله عن طمأنينة ناتجة عن عقد واحد، فيلتزم به لأنه قد سلم نفسه عند كل أمر ونهي(3)، وكلمة دين تتضمن التزاماً أدبياً(4).
فعندما يكون دين الإنسان الإسلام فهو التزام منه تجاه الله بأركان الإسلام المعهودة "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان"(5)، والتزام تجاه الناس بالسلامة من أذاه "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"(6) أي أنه دخل في باب السلامة حتى يسلم المؤمنون من بوائقه وفي الحديث "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه"(7).
وبناء على هذا العهد سيسأل الإنسان على ما أوتي من نعم وما أداه من واجبات وما قام به من أعمال )وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ( (النحل:93) )وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً( (الإسراء:36) ) ُثمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ( (التكاثر:8)، ويحاسب على كل صغيرة وكبيرة )وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ( (البقرة:284) )كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ( (المدثر:38) )لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ( (البقرة:286).
وهي مسؤولية شخصية فردية لا تتعدى صاحبها فيما يتعلق بشؤون الفرد )وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى( (الأنعام:164) )وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ( (النساء:111) ) كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ( (الطور:21) )قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ((سـبأ:25) )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ( (المائدة:105).
وكذلك هي مسؤولية جماعية فيما يتعلق بشؤون الأمة )تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ( (البقرة:134)، فهي مسؤولية متنوعة دينية واجتماعية وأخلاقية )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ( (لأنفال:27).
وآثار هذه المسؤولية ليست أخروية تتعلق بجزاء العمل فحسب، إنما آثارها مباشرة ومعيشية ترتبط بحياة الناس الآنية )وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ((الشورى:30) )أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( (آل عمران:165).
إذًا فالالتزام بالدين بما هو علاقة مزدوجة بين الله والإنسان وبين الإنسان والإنسان يعتبر مؤشراً على سلامة الفرد والمجتمع من مصائب هي من آثار ما يكسب البشر، وليس الالتزام تقمصاً أو تمظهراً بمشاعر وسلوكيات دالة عليه بقدر ما هو سلامة الناس من الأذى والسوء الذي يخلِّفه الفرد في مجتمعه، وهذا لا ينفصل عن أداء الشعائر والعبادات التي لها الدور الأهم في تقويم سلوك الفرد الشخصي والاجتماعي، فسلامة الإنسان لا تنفصل عن أداء الأركان التي تقوم السلوك وتصحح العلاقة بين الناس.