الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ،
نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه واستن بسنته إلى يوم الدين .
- أمَّا بعد -
فقد قال صلى الله عليه وسلم :
[ إنَّ لله تعالى عتقاء في كل يوم و ليلة – يعني في رمضان –
وإنَّ لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة]
[ رواه الإمام أحمد وصححه الألباني (2169) في صحيح الجامع ]
وقال صلى الله عليه وسلم :
[ إنَّ لله عز وجل عند كل فطر عتقاء ]
[ رواه الإمام أحمد وحسنه الألباني (2170) في صحيح الجامع ]
فحري بمن سمع بهذا الحديث أن يبذل قصارى جهده في الاتيان بالأسباب
التي بها فكاك رقبته من النَّار ، لا سيما في هذا الزمان الشريف ، حيث رحمة الله السابغة ،
فيا باغي الخير هلمَّ أقبل ، فقد صفدت الشياطين ، وسجِّرت النيران ، وفتِّحت أبواب الجنة ،
فيا لعظم رحمة الله !! أي ربٍ كريم مثل ربِّنا ، له الحمد والنعمة والثناء الحسن .
فكم لله من عتقاء كانوا في رق الذنوب والإسراف ،
فأصبحوا بعد ذل المعصية بعز الطاعة من الملوك والأشراف .
فلك الحمد
كم له من عتقاء صاروا من ملوك الآخرة بعدما كان في قبضة السعير .
فلك الحمد .
فيا أرباب الذنوب العظيمة ، الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة ،
فما منها عوض و لا لها قيمة ، فمن يعتق فيها من النار فقد فاز بالجائزة العظيمة .
بشراك بأعظم بشارة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه :
[ أنت عتيق الله من النار ]
[ رواه الترمذي والحاكم وصححه الألباني (1482) في صحيح الجامع ]
ولا يُلقاها إلا ذو حظ عظيم ،
فعسى أسير الأوزار يطلق ، عسى من استوجب النار يعتق ،
جعلني اللهُ وإياك منهم .
وقد دلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعمال إذا قمنا بها كانت سببًا لعتق رقابنا من النَّار ،
وقد جمعت لك منها عشرين سببًا ، لتعمد إليها ، وتحاول القيام بها جميعًا ، ضعها نصب عينيك ،
حاول أنْ تجعل منها برنامجًا يوميًا ، ومشروعًا إيمانيًا ، دراسة جدواه تقول :
إنَّ أرباحه لا نظير لها ، ولا مثيل لضخامتها ، إنَّه " العتق من النار "
قال تعالى :
[ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ]
[آل عمران : 185]
فهذه أسباب العتق ، وقد بقي منك العمل ، فلا تفتر فإنَّها أعظم جائزة وأفضل غنيمة .
فمن هذه الأسباب :
(1) الإخلاص .
قال صلى الله عليه وسلم :
[ لن يوافي عبد يوم القيامة يقول : لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله إلا حرَّم الله عليه النار ]
[ رواه البخاري ]
ومن أظهر علاماته : النشاط في طاعة الله ، وأنْ يحب أن لا يطلع على عمله إلا الله .
قيل لذي النون : متى يعلم العبد أنَّه من المخلصين ؟
قال : إذا بذل المجهود في الطاعة ، وأحب سقوط المنزلة عند النَّاس .
فإذا أردت الفوز بهذه المنزلة العظيمة فجدَّ واجتهد ، وشد المئزر ،
وأرِ الله من نفسك شيئًا يبلغك رضاه ،
وبقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى ، وعلى قدر جدِّك يكون جدُّك ،
قال الصديق أبو بكر رضي الله عنه :
والله ما نمت فحلمت ، ولا توهمت فسهوت ، وإنِّي لعلى السبيل ما زغت .
قيل للربيع بن خثيم : لو أرحت نفسك ؟ قال :
راحتها أريد .
فجُد بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايتك ، وتحقيق بغيتك ؛
فالمكارم منوطة بالمكاره ، والمصالح والخيرات لا تُنال إلا بحظ من المشقة ،
ولا يُعبر إليها إلا على جسر من التعب .
فكل شيء نفيس يطول طريقه ، و يكثر التعب في تحصيله ،
يقول ابن الجوزي في " صيد الخاطر " :
فلله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها ،
فهم يبالغون في كل علم و يجتهدون في كل عمل ، و يثابرون على كل فضيلة ،
فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك قامت النيات نائبة ، و هم لها سابقون .
يقول :
" ولقد تأملت نيل الدر من البحر فرأيته بعد معاناة الشدائد ،
و من تفكر فيما ذكرته مثلا بانت له أمثال ، فالموفق من تلمح قصر الموسم المعمول فيه ،
وامتداد زمان الجزاء الذي لا آخر له فانتهب حتى اللحظة ،
و زاحم كل فضيلة ، فإنها إذا فاتت فلا وجه لا ستدراكها .
نعم إذا كنت مخلصًا صادقُا ، فسيكون رد فعلك واضحًا قويًا ،
فإذا قرأت تلك الأسباب للعتق من النًّار مثلاً ، شمَّرت عن ساعد الجد للإتيان بها جميعًا ،
سوف تتأمل عظم النار ، وشدة ما فيها من عذاب ، وتشفق على نفسك أن يكون هذا مصيرها ،
فستسعى إن كنت تريد الله واليوم الآخر ، وستكد ، وستجتهد ،
وتتحمل المشاق من أجل أن تفوز بهذا الفضل الذي لا يضاهى ولا يماثل .
(2) إصلاح الصلاة بإدراك تكبيرة الإحرام .
قال صلى الله عليه وسلم :
[ من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان :
براءة من النار و براءة من النفاق ]
[رواه الترمذي وحسنه الألباني (6365) في صحيح الجامع ]
وهذا مشروع إيماني ينبغي أن تفرغ له نفسك ، إنها مائتا صلاة ، فاعتبرها مائتي خطوة إلى الجنة ،
فهل لا تستحق سلعة الله الغالية أنْ تتفرغ لها ؟
وطريقك إلى ذلك أن تتخفف من أعباء الدنيا طوال هذه المدة ، وعليك بالدعاء مع كل ( صلاة )
أن يرزقك الله الصلاة التالية تدرك تكبيرة الإحرام فيها ، وهكذا .
واعلم أنَّ إصلاح النَّهار سبيل إلى إصلاح الليل ، والعكس صحيح ،
وهذا يكون باجتناب الذنوب والحرص على الطاعات ووظائف الوقت من أذكار ونحوها ،
فقط اجعل الأمر منك على بال ، واجتهد في تحقيقه ، واستعن بالله ولا تعجز ،
فإن تعثرت في يوم ، فاستأنف ولا تمل ، فإنَّها الجنة ، إنَّه العتق من النار ،
والسلامة من الدرك الأسفل فيها .
(3) المحافظة على صلاتي الفجر والعصر .
قال صلى الله عليه وسلم :
[ لن يلج النار أحد صلَّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها - يعني الفجر والعصر ــــ ]
[ رواه مسلم ]
وهذا بأن تصليهما في أول الوقت ، وتحافظ على أداء السنة قبلهما
قال صلى الله عليه وسلم : [ ركعتا الفجر خير من الدنيا و ما فيها ]
[ رواه مسلم ]
وقال صلى الله عليه وسلم :
[ رحم الله امرءًا صلَّى قبل العصر أربعا ]
[رواه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني (3493) في صحيح الجامع ]
وعليك أن تكثر من الدعاء والاستغفار بين الآذان والإقامة
لتتهيأ للصلاة فترزق فيها الخشوع والخضوع ،
فمداومتك على هذا سبب عظيم لاستقامة الحال مع الله ، فعظِّم شأن هاتين الصلاتين ،
فاستعن على أداء الفجر بالنوم مبكرًا ، والنوم على طهارة ، والأخذ بأذكار قبل النوم ،
والدعاء بأن يهبك الله هذا الرزق العظيم .
واستعن على أداء العصر بأن لا تتغذى قبلها مباشرة ،
وأن لا ترتبط بأعمال ترهقك أو تشغل خاطرك ،
ولكن حاول دائمًا على قدر المستطاع أن تستجم إيمانيًا في تلك الساعة من النهار .
(4) المحافظة على أربع ركعات قبل الظهر وبعده
قال صلى الله عليه وسلم :
[ من يحافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرَّمه الله على النار ]
[ رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه الألباني (584) في صحيح الترغيب ]
فهذا الفضل لا يحصل إلا لمن حافظ على هذه الركعات،
وبعض العلماء يرى أنَّها سنة مؤكدة لما لها من جزاء عظيم .
فإذا وجدت نفسك تستصعب هذا فذكرها [ حرَّمه الله على النار ]
وألح عليها تعتاده ، وإنه ليسير على من وفقه الله تعالى
(5) البكاء من خشية الله تعالى
قال صلى الله عليه وسلم :
[ لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ،
و لا يجتمع غبار في سبيل الله و دخان جهنم في منخري مسلم أبدا ]
[ رواه الترمذي والنسائي وصححه الألباني (7778) في صحيح الجامع ]
فهنيئًا لك إذا صحت لك دمعة واحدة من خشية الله ، فإنَّ القلوب تغسل من الذنوب بماء العيون ،
والبكاء قد يكون كثيرًا لاسيما في رمضان ومع سماع القرآن في صلاة التراويح والتهجد ،
ولكن كما قال سفيان الثوري : إذا أتى الذي لله مرة واحدة في العام فذلك كثير
ويكفي أنَّ من رزق تلك الدمعة قد اختصه الله بفضل لا يبارى فيه
فهو في ظل عرش الرحمن يوم الحشر :
فإنَّ من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظلَّ إلا ظله :
[ رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه ]
[ رواه مسلم ]
والله يحب صنيعه هذا ، فقد يكون هذا سببًا في أن يحبه الله تعالى ،
وساعتها لا تسأل عن نعيمه وفضله .
قال صلى الله عليه وسلم :
[ ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين ، قطرة من دموع في خشية الله ،
وقطرة دم تهراق في سبيل الله ، وأما الأثران فأثر في سبيل الله ، وأثر في فريضة من فرائض الله ]
[ أخرجه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1363) ]
قال خالد بن معدان : إنَّ الدمعة لتطفئ البحور من النيران ،
فإنْ سالت على خد باكيها لم ير ذلك الوجه النَّار ،
وما بكى عبد من خشية الله إلا خشعت لذلك جوارحه ،
وكان مكتوبًا في الملأ الأعلى باسمه واسم أبيه منورًا قلبه بذكر الله
. [ الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا ص(48) ]
فنعوذ بالله من عين لا تدمع من خشيته ، ونسأله عينًا بالعبرات مدرارة ، وقلبًا خاشعًا مخبتًا .
(6) مشي الخطوات في سبيل الله
عن يزيد بن أبي مريم رضي الله عنه قال : لحقني عباية بن رفاعة بن رافع رضي الله عنه
وأنا أمشي إلى الجمعة فقال أبشر فإن خطاك هذه في سبيل الله سمعت أبا عبس يقول
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
[ من اغبرت قدماه في سبيل الله فهما حرام على النار ]
[ رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وصححه الألباني (687)في صحيح الترغيب]
فاحتسب كل خطوة تخطوها في سبيل الله ، ممشاك إلى المسجد ،
وأعظمها تلك الخطوات إلى صلاة الجمعة .
قال صلى الله عليه وسلم :
[ من غسَّل يوم الجمعة و اغتسل ، ثم بكَّر وابتكر ، ومشى و لم يركب ، ودنا من الإمام ،
واستمع و أنصت ، ولم يلغ ، كان له بكل خطوة يخطوها من بيته إلى المسجد
عمل سنة أجر صيامها و قيامها ]
[ أخرجه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم وصححه الألباني ( 6405 ) في صحيح الجامع ]
وقد قيل : إنَّ هذا أعظم حديث في فضائل الأعمال ،
فهنيئًا لك تلك الخطوات إن كانت في سبيل الله .
فاحتسب خطاك في الدعوة إلى الله ، وإغاثة الملهوف ، وقضاء حاجة أخيك المسلم ،
وعيادة المرضى ، وشهود الجنائز ، ونحوها مما تقتضي منك العرق والجهد ، فلعلك بها تُعتق من النار .
(7) سماحة الأخلاق .
قال صلى الله عليه وسلم :
[ من كان هينا لينا قريبًا حرمه الله على النار ]
رواه الحاكم وصححه الألباني (1745) في صحيح الترغيب ]
قال المناوي :
ومن ثم كان المصطفى صلى الله عليه وسلم في غاية اللين ،
فكان إذا ذكر أصحابه الدنيا ذكرها معهم ،
وإذا ذكروا الآخرة ذكرها معهم ، وإذا ذكروا الطعام ذكره معهم.
[ فيض القدير (6/207) ]
فكان كما قال الله تعالى :
[ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ]
[ التوبة : 128 ]
فكن سمحًا في سائر معاملاتك مع النَّاس ، باشًا في وجوههم ، وتبسمك في وجه أخيك صدقة ،
حليمًا غير غضوب ، لين الجانب ، قليل النفور ، طيب الكلم ، رقيق الفؤاد ،
فإذا اشتد أخوك فعامله بالرفق لا الخشونة . ولا تنسَ " إنَّه العتق من النار "
(8) إحسان تربية البنات أو الأخوات
قال صلى الله عليه وسلم :
تي يعول ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن إلا كنَّ له سترا من النار]
[ رواه البيهقي وصححه الألباني (5372) في صحيح الجامع ]
وقال صلى الله عليه وسلم :
[ من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن ، وأطعمهن ، وسقاهن ، وكساهن من جدّته
كنَّ له حجابا من النار يوم القيامة ]
[رواه الإمام أحمد وابن ماجه وصححه الألباني (6488) في صحيح الجامع ]
فاحتسب سعيك في طلب الرزق لتنفق على أولادك أو أخواتك ،
واحتسب كل وقت تبذله في تربيتهم ، ولكن احذر من عدم الإخلاص ،
فأنت تربيهم لله ، ليكونوا عبادًا لله ، لا ليكونوا ذخرًا لك ،
أو حتى تتباهى بهم أمام النَّاس ، وسيظهر ذلك في اهتمامك بتعليمهم أمور دينهم ،
بتحفيظهم القرآن ، اهتمامك بحجاب الفتيات ، وتعويدهم خصال الخير والبر ،
لو أحسنت النية ستوفقك إن شاء الله .
اعتق .. تُعتق .
فقد مضت الحكمة الإلهية والسنة الربانية بأنَّ الجزاءَ من جنس العَمل ،
فمن أراد أنْ يُعتق غدًا من النَّار فليقدم قرابينه فيسعى في عتق الأنفسِ .
] قال صلى الله عليه وسلم :