تمت بيعة العقبة الثانية في السنة الثالثة عشرة للبعثة : وكان من بنودها أن
يهاجر المسلمون من مكة إلى إخوانهم في يثرب ، فموطن الإتسان الحقيقي وداره
التي يجب أن يسعى إليها ، ويعيش فيها ، ذلك المكان الذي يتعبّد فيه بحريّة
، ويقيم فيه شعائره دون أن يكون عليه رقيب ، ويحسُّ فيه بشخصيته ، ويصنع
فيه مع إخوانه في العقيدة مجتمعاً مسلماً . . إنها المدينة المنوَّرة إذاً .
.
وأمر الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمين أن يهاجروا
إليها ، والهجرة ليست أمراً سهلاً ، فهي إهدار للتجارة وتضحية بالمصالح
المادية ، يترك الإنسان متجره ، وأرضه الزراعية ، ومصنعه ، وبيته الذي تعب
في إنشائه ، وقد يدع أهله وأولاده ومَنْ يحب لينجو بنفسه ودينه . . ولا
مفرَّ من التضحية وإن كانت فادحة الثمن ليكسب ما هو أثمن وأغلى وأدوَمُ . .
.
وبدأ المسلمون يهاجرون . . كلٌّ بطريقته ، وبدأ المشركون يتعقَّبونهم
ويمنعونهم لشعورهم أنَّ مَنْ يترك كلَّ شيء لا بدَّ أن يكون في نفسه قوياً
، وسيعود ليهددهم في عقر دارهم ، ويستعيد حقّه ، ويقضي عليهم . وكان هناك
نماذج من المنع .
1 ـ لما أراد صهيب رضي الله عنه الهجرة جعل ماله
في مكان آمن ثم انطلق نحو المدينة ، فأحسَّ به المشركون ، فقد كان حانوته ـ
مصنع الحدِادَةِ للسيوف وأسّنةِ الرماح ـ مغلقاً . . وطاردوه بخيولهم حتى
صاروا على مقربةٍ منه ، فشعر بهم وأسرعَ إلى تلٍّ قريب يشرف عليهم وانتضى
أحد سهامه ووضعه في قوسه وسدَّد نحوهم ، فلما عرفوا فيه صدق ما انتواه
قالوا : ما أنتَ فاعل يا صهيب ؟
قال : ولأيِّ شيء تبعتموني يا أعداء الله ؟!
قالوا وقد كشروا عن نواياهم الخبيثة : أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا ، وبلغتَ الذي بلغتَ ، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك ؟
قال لهم : تعلمون أنني والله أشدكم إصابة للهدف ، وأن سهمي لا يخيب ولن تصلوا إليَّ حتى تفرغ سهامي وأقتل بكل سهم رجلاً .
قالوا : هات مالك نَعُدْ أدراجنا .
قال : لا أحمل منه شيئاً وقد تركته في مخبأ في مكة .
قالوا : دلّنا عليه إذاً . .
قال : هو في مكان كذا وكذا وأنتم تعلمون صدقي .
فانطلقوا إلى ذلك المكان الذي حدَّدَه ثم توقف أحدهم ، فقال ألا يكون كاذباً في قوله لنا آنفاً ؟
قالوا له : نحن نعرف أصحاب محمد لا يكذبون . . فقد رأوا المال في المكان لذي حدّدَه .
وحين
وصل إلى المدينة المنوّرة استقبله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
باشّاً ، فرحاً بقدومه قائلاً له : (( ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا
يحيى )) .
2 ـ كان أبو سلمة رضي الله عنه أوّل المهاجرين ـ قبل
العقبة الكبرى بسنة ـ وخرج بزوجته أم سلمة وابنه سلمة ، فلما أجمع الخروج
قال له أصهاره : لا نستطيع أن نغلبك على نفسك ، أما زوجتك فهي ابنتنا ،
فعلام نتركك تسير بها في البلاد ، لا والله لا تأخذها ، فانتزعوها منه
ومعها ابنها .
غضب آل أبي سلمة حين رأوا أهل زوجته قد منعوها أن تسافر
معه فقالوا : هذه ابنتكم حبستموها ، فعلام نترك سلمة معها ؟ والله لا نترك
ابننا معها ، وتجاذبوا الغلام بينهم فخلعوا يده ، وذهبوا به .
وانطلق
أبو سلمة وحده إلى المدينة ، وكانت أم سلمة بعد ذهاب زوجها ، وضياع ابنها ،
تخرج كل صباح إلى خارج المنازل تبكي على تشتت أسرتها حتى تمسي . . ومضى
على ذلك سنةٌ ، فرَقَّ لها أحد ذويها ، وقال : ألا تخرجون هذه المسكينة ؟!!
فرَّقتم بينها وبين زوجها وابنها ، فرَقّوا لها وقالوا لها : الحقي بزوجك
إن شئت ، فاسترجعت ابنها من عصبته ، وخرجت تريد المدينة وليس معها أحدٌ
مِنْ خلق الله . . والمدينة تبعد عن مكة ثلاث مئة ميل ، ولكنْ ما تقول في
قسوة القلوب ، وجفاء الطبع ؟!! حتى إذا كانت بالتنعيم ـ خارج مكة صوب
المدينة ـ لقيها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة قال لها : هل أفرج عنك يا أمَّ
سلمة ؟ وكان يعرف حالها ، قالت : نعم . . قال : أزمعت اللحاق بزوجك ؟ قالت :
نعم فلم تطب نفسه أن يتركها تسير وحدها لا معين لها ، فشيعها إلى المدينة ـ
وهو صاحب نخوة ومروءة ـ فلما نظر إلى قباء قال : زوجك في هذه القرية ثم
انصرف راجعاً إلى مكة .
3 ـ تواعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعياش
بن أبي ربيعة المخزومي وهشام بن العاص بن وائل موضعاً يصبحون عنده ، ثم
يهاجرون إلى المدينة المنوّرة ، إلا أن هشام بن العاص حبسه أهله حين علموا
بعزمه مغادرة مكة فهاجر عمر وعياش وحدهما ، ولما قدما المدينة نزلا بقُباء .
. ولم تمض مدة حتى قدم إلى قباء أبو جهل وأخوه الحارث يريدان عيّاشاً ـ
وأم الثلاثة واحدةٌ ـ فقالا له : إن أمك نذرت أن لا يمس رأسها مشط ، ولا
تستظل بشمس حتى تراك ، وكان باراً بأمه ، محباً لها ، فرقَّ قلبه ، وأزمع
السفر إلى مكة ، فقال له عمر : يا عياش ؛ والله ، إن القوم يريدون أن
يفتنوك عن دينك ، ويحبسوك ، ويعذبوك ، فاحذرهم ، فوالله لو كثر القمل في
رأس أمك لامتشَطَتْ ، ولو قد اشتد عليها حرُّ مكة لاستظلت ، وما هذان إلا
كاذبان مدّعيان . فأبى عياش إلا الخروج معهما ليَبَرَّ قَسَمَ أمه
فقال
له عمر : إذا أبيت نصيحتي وقررت الخروج معهما ، فخذ ناقتي هذه ، فإنها
ناقةٌ أصيلة ذلول ، فالزم ظهرها ، وراقبهما ، فإن رأيت في القوم ريبة فانج
عليها .
فخرج عليها معهما ، حتى إذا كانوا في بعض الطريق ، يلينان له
القولَ ويبتسمان في وجهه ، قال أبو جهل : والله يا أخي ؛ إنَّ بعيري هذا
غليظ هجين ، أفلا تردفني على ناقتك هذه ؟ قال عياش : بلى ، فأناخ ناقته ،
وأناخا ليتحول أبو جهل عليها ، فلما استووا بالأرض عَدَوَا عليه ، وأوثقاه ،
وربطاه ، وظل هكذا على حالته هذه حتى وصلوا إلى مكة فدخلوها نهاراً ليراه
الجميع مكبلاً ، فلا يجرؤ أحد على الهجرة ، ومخالفة المشركين ، وقالا : يا
أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا !!
وبقي عياش في
قيد الكفار حتى إذا هاجر رسول الله ـ صلى الله علي وسلم ـ قال يوماً : ((
مَن لي بعيّاش وهشام ؟! فقد طال أسرهما وأرجو الله أن يفرّجَ عنهما . .
فهما محبوسان في بيت لا سقف له إمعاناً في التعذيب ، تلفحهما الشمس في
النهار ، ويؤذيهما البرد في الليل ، وتحمل إليهما طعامهما امرأة )) .
قال الوليد بن الوليد : أنا لك يا رسول الله بهما .
قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( سِرْ على بركة الله )) .
فقدم
الوليد مكة مستخفياً ، ولقي المرأة تحمل طعامهما ، فتبعها حتى عرف موضعهما
، فلما أمسى تسوَّر الجدار ، وقطع قيدهما ، وحملهما على بعيره حتى قدم
المدينة .
ولا تسل عن فرحة رسول الله ـ صلى الله عليبه وسلم ـ والمسلمين بهم حميعاً .