قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران: 14].
وقال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)} [القيامة: 20 - 21].
حب الدنيا يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عند الله، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقَّر الله، وهي سجن المؤمن، وجنة الكافر.
وقد لعنها الله وأبغضها ومقتها إلا ما كان له فيها، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض للعنه ومقته وغضبه سبحانه.
ومن أحب الدنيا صيرها غايته، وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه، وإلى الدار الآخرة، فعكس الأمر، وقلب الحكمة، فانعكس قلبه، وانعكس سيره إلى وراء، وسار في الظلمات، وترك طريق الهدى والنور: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72].
ومحبة الدنيا تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود عليه نفعه في الآخرة؛ لأشتغاله عنه بمحبوبه.
والناس ها هنا مراتب:
فمنهم من يشغله محبوبه من الدنيا عن الإيمان وشرائعه.
ومنهم من يشغله عن الواجبات التي تجب عليه لله ولخلقه، فلا يقوم بها ظاهراً ولا باطناً.
ومنهم من يشغله حبها عن كثير من الواجبات والسنن.
وأقل درجات حب الدنيا أنه يشغل عن سعادة العبد، وهو تفريغ القلب لحب الله، ولسانه لذكره.
ومحبة الدنيا تضر بالآخرة ولا بدّ، كما أن محبة الآخرة تضر بالدنيا، ومحبتها تجعلها أكبر هَمٍّ للعبد.
ومحب الدنيا أشد الناس عذاباً بها، وهو معذب في دوره الثلاث: يعذب في الدنيا بتحصيلها، والسعي فيها، ومنازعة أهلها، ويعذب في البرزخ بفواتها والحسرة عليها، وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبداً، فيعمل فيه الهم والغم والحزن والحسرة في روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض في جسمه.
ومن أحب الدنيا، وآثرها على الآخرة، فهو من أسفه خلق الله، وأقلهم عقلاً، إذ آثر الظل الزائل على النعيم الدائم، والدار الفانية على الدار الباقية، وباع حياة الأبد في أرغد عيش، بحياة إنما هي أحلام ونوم.
فالدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وهي دار ظعن ليست بدار إقامة،
مَنْ صح فيها هرم .. ومن استغنى فيها فُتن وطغى .. تُذل من أعزها .. وتُفقر من جمعها .. وهي كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه.
وصاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، السار فيها غذاء ضار، وقد وُصِلَ الرخاء منها بالبلاء، وجُعل البقاء فيها إلى فناء، فسرورها مشوب بالحزن، صفوها كدر، وعيشها نكد، وليس لها عند الله قدر ولا وزن.
وقد عرضت الدنيا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغض الله خالقه، أو يرفع ما وضع ربه.
فزوى الله الدنيا عن الأنبياء والمرسلين والصالحين اختياراً، وبسطها لأعدائه اغتراراً،
فيظن المغرور بها القادر عليها أنه أُكرم بها، وشرفه الله بملكه لها، ونسي ما صنع الله بمحمد - صلى الله عليه وسلم - حين شد الحجر على بطنه، وأنه وهو سيد الخلق لم توقد النار في بيته الشهر والشهرين، فقطع حبالها، وأغلق أبوابها، وزهد بسلعها.
وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وما سكنت الدنيا في قلب عبد إلا ابتلي بشغل لا ينفك عناؤه، وأمل لا يدرك منتهاه، فالدنيا طالبة مطلوبة، فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنقه.
والعاقل من رضي بيسير الدنيا مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بيسير الدين مع سلامة الدنيا.
وشهوات الدنيا في القلب كشهوات الأطعمة في المدة، وسوف يجد الإنسان عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والفتن والقبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا انتهت في المعدة غايتها، واستحالت إلى رجيع قذر.
ومَثَل اشتغال أهل الدنيا بنعيمها، وغفلتهم عن نعيم الآخرة، مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة في البحر، فأمرهم الملاَّح بالنزول لقضاء الحاجة، وحذرهم الإبطاء، وخوَّفهم ذهاب السفينة، فتفرقوا في نواحي الجزيرة، فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة، فأخذ أوسع الأماكن وألينها، وأرفقها لمراده.
ووقف بعضهم في الجزيرة ينظر إلى أزهارها وثمارها العجيبة، ويعجبه حسن أحجارها، وأصوات طيورها.
ثم حدثته نفسه بفوت السفينة، فأسرع فلم يجد فيها إلا مكاناً ضيقاً يجلس فيه.
وأكب بعضهم على تلك الأحجار الحسنة، والأزهار الجميلة، فحمل منها ما حمله، فلما جاء لم يجد في السفينة موضعاً فحمله على عنقه، وندم على أخذه، ثم ذبلت الأزهار، وتغيرت ريحها، وآذاه نتنها.
وهام بعضهم في تلك الفياض، ونسي السفينة، وأبعد في نزهته.
فهو تارة يشم الأزهار .. وتارة يأكل من الثمر .. وتارة يعجب من تغريد الطيور، وجريان الأنهار، وهو مع ذلك خائف من سبع يخرج، أو شوكة تدخل في قدميه، أو غصن يجرح بدنه ويخرق ثيابه.
فمن هؤلاء من لحق السفينة ولم يلق فيها موضع فمات على الساحل، ومنهم من شغله لهوه فافترسته السباع وهو غافل، ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك.
فهذا مثال أهل الدنيا، واشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم وعاقبة أمرهم.
والعبد في هذه الدنيا مهاجر بعمله إلى ربه، والدنيا فانية زائلة، وهي كظل شجرة، والعبد فيها مسافر، والمسافر إذا رأى شجرة في يوم صائف استراح تحتها ثم راح وتركها، فلا يحسن به أن يبني تحتها داراً، ولا يتخذها قراراً، بل يستظل بقدر الحاجة ثم يواصل السير، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» أخرجه الترمذي وابن ماجه (1).
والدنيا وما فيها من النعيم بالنسبة إلى الآخرة ونعيمها كالقطرة بالنسبة إلى البحر، وما في الدنيا من الأموال والأشياء لا يساوي شيئاً بالنسبة لما في الآخرة.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ (وَأشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ) فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟» أخرجه مسلم (2).
ومهما كان في الدنيا من النعيم فبقاؤها محدود، وبهجتها قليلة، وهي سريعة الزوال كما قال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} [الحديد: 20].
لذا أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالمسابقة إلى الآخرة، والمسارعة إلى أعمالها كما قال سبحانه: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} [الحديد: 21].
وقال سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} [آل عمران: 133].
وكل إنسان في هذه الدنيا في إحدى منزلتين:
إما في منزلة الإيمان والتقوى والإصلاح وعمارة الآخرة بالأعمال الصالحة.
وأما في منزلة الكفر والفساد، والأكل والشره، وعمارة الدنيا الفانية.
فالإنسان إن لم تجده يعمل في هذه .. فتجده يعمل في الأخرى، وبين الرجلين في العمل كما بين الكوكب الغارب في الأفق والطامع منه .. وبين ذلك منازل متفاوتة.
والدنيا كالبحر الذي لا بدَّ للخلق كلهم من ركوبه ليقطعوه إلى الساحل الذي فيه دورهم وأوطانهم، ولا يمكن قطعه إلا في سفينة النجاة، وسفينة النجاة طاعة الله ورسوله.
وقد أرسل الله الرسل لتعرف الأمم اتخاذ سفن النجاة، وتأمرهم بعملها وركوبها، فنهض الموفقون وركبوا السفينة فوصلوا إلى محبوبهم ومرادهم.
وأما الحمقى من الناس فاستصعبوا عمل السفينة وركوبها، وقالوا نخوض البحر فإذا عجزنا قطعناه سباحة، وهم أكثر أهل الدنيا الذين خاضوا البحر، فلما عجزوا أخذوا في السباحة حتى أدركهم الغرق، وصار حظهم شقاء الأبد.
فهؤلاء الذين يعرضون على النار ويوبخون هناك كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)} [الأحقاف: 20].
فمن اطمأن إلى الدنيا .. واغتر بلذاتها .. ورضي بشهواتها .. وألهته طيباتها عن السعي للآخرة .. وتمتَّع بها تمتُّع الأنعام السارحة .. فهي حظه من الآخرة .. وسينال على ذلك أشد العقوبة لتكبره عن الحق .. وقول الباطل .. والعمل بالباطل .. والكذب على الله.
والدنيا متاع الغرور .. كم قتلت؟ .. كم أهلكت من البشر؟.