من أبرز الدلائل على نبوة رسول الله محمد تعاملاته الراقية مع من لا يعرف؛ لأننا قد نتجمَّل أمام بعضنا البعض، ونتعامل بجفاء مع من لا يعرفنا، لكن الله I قد مَنَّ على رسول الله برقَّة القلب مع مَنْ يعرف، ومَنْ لا يعرف، فقال : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
صور من تعاملات رسول الله
وسيرة رسول الله خير شاهد على تعاملاته الرائعة مع من لا يعرف؛ ولننظر إلى موقفه مع أم معبد، فعن حبيش بن خالد -وهو أخو أم معبد- أن رسول الله حين أُخْرج من مكة خرج مهاجرًا إلى المدينة هو وأبو بكر، ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة ودليلهما عبد الله الليثي، مروا على خيمة أم معبد، فسألوها لحمًا وتمرًا؛ ليشتروا منها، فلم يصيبوا عندها شيئًا من ذلك، وكان القوم مُرْمِلِينَ[1] مُسْنِتِينَ[2]، فنظر رسول الله إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: "مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟" قالت: شاة خلَّفها الجهد عن الغنم.
قال: "هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ؟" قالت: هي أجهد من ذلك. قال: "أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا؟" قالت: بأبي أنت وأمي! إن رأيت بها حلبًا فاحلبها. فدعا رسول الله فمسح بيده ضرعها، وسمَّى الله تعالى، ودعا لها في شاتها، فتفاجت[3] عليه ودرَّت، واجترَّت[4]، فدعا بإناء يُرْبِضُ الرَّهْط[5]، فحلب فيه ثجًّا[6] حتى علاه البهاء[7]، ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم حلب فيه ثانيًا بعد بدء حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها وبايعها، وارتحلوا عنها[8].
ففي هذا الموقف تتجلَّى عظمة النبي فقد تعامل معها تعاملاً عادلاً، رغم أنه خرج مهاجرًا؛ لا يملك مالاً ولا طعامًا، وهي لا تعرفه حتى يسقط من نظرها، ولكن رسول الله يتعامل من منطق النبوة وليس من منطق قطَّاع الطرق، الذين يغتصبون حقوق الآخرين.
وكانت معاملات رسول الله r الراقية هذه مع من لا يعرف سببًا في ثبات إسلام العديد منهم؛ فعن المنذر بن جريرٍ، عن أبيه، قال: كنَّا عند رسول الله في صدر النَّهار، قال: فجاءه قومٌ حفاةٌ عراةٌ، مجتابى النِّمار[9]، أو العباء، متقلِّدى السُّيوف، عامَّتهم من مضر، بل كلُّهم من مضر، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رسول الله لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً، فأذَّن وأقام، فصلَّى ثمَّ خطب، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}، إلى آخر الآية: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، والآية التي في الحشر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 18]، تَصَدَّقَ رَجُلٌ من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّهِ، من صاع تمره -حتَّى قال- وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ. قال: فجاء رجلٌ من الأنصار بصُرَّة[10]، كادت كفُّه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثمَّ تتابع النَّاس حتَّى رأيت كومين من طعامٍ وثيابٍ حتَّى رأيت وجه رسول اللَّه يتهلَّل كأنَّه مذهبةٌ فقال رسول اللَّه : "مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ"[11].
بل وكانت سببًا في إسلام البعض الآخر فها هو ذا زيد بن سعنة، وكان من أحبار اليهود، يقول: إنه لم يبقَ من علامات النبوة شيء إلاَّ وقد عرفتها في وجه محمد حين نظرت إليه، إلاَّ اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلاَّ حِلمًا، فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله.
قال: فخرج رسول الله من الحجرات، ومعه علي بن أبي طالب، فأتاه رجل على راحلته كالبدوي، فقال: يا رسول الله، قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام، وكنت أخبرتهم أنهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغدًا، وقد أصابهم شدَّة وقحط من الغيث، وأنا أخشى - يا رسول الله - أن يخرجوا من الإسلام طمعًا كما دخلوا فيه طمعًا، فإن رأيت أن تُرسِل إليهم من يُغيثهم به فعلت. قال: فنظر رسول الله إلى رجل جانبه -أراه عمر- فقال: ما بقي منه شيء يا رسول الله.
قال زيد بن سعنة: فدنوت إليه، فقلت له: يا محمد، هل لك أن تبيعني تمرًا معلومًا من حائط بني فلان إلى أجل كذا وكذا؟ فقال: "لا يَا يَهُودِيُّ، وَلَكِنِّي أَبِيعُكَ تَمْرًا مَعْلُومًا إِلَى أَجْلِ كَذَا وَكَذَا، وَلا تُسَمِّي حَائِطَ بني فُلانٍ". قلت: نعم. فبايَعَنِي ، فأطلقت همياني، فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا، قال: فأعطاها الرجلَ[12].
وما أجمل أن نختم بموقف رسول الله مع رجل لا يعرفه ، وكان رسول الله شديد الحرص على ضيافته، ولكن لفقره لم يجد ما يضيفه به، فنزل هذا الرجل ضيفًا على أحد الأنصار، فعن أبى هريرة أنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله فقال: إنِّي مجهودٌ. فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والَّذى بعثك بالحقِّ ما عندى إلاَّ ماءٌ. ثمَّ أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتَّى قلن كلُّهنَّ مثل ذلك: لا والَّذى بعثك بالحقِّ ما عندى إلاَّ ماءٌ. فقال: "مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؟". فقام رجلٌ من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله...[13].
هكذا كان النبي محمد يتعامل مع من لا يعرف، وفي ذلك دلالة على نبوته ؛ لأنه كان واضحًا وشفافًا في كل أمر من أمور حياته.
د. راغب السرجاني
[1] المرملين جمع المُرْمِلُ: وهو الذي نَفِدَ زاده. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة رمل 11/294.
[2] مسنتين أي: مجدبين، أصتبتهم السنة، وهي القحط والجدب. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة سنت 2/47.
[3] فتفاجت يريد فتحت ما بين رجليها للحلب. انظر: ابن قتيبة: غريب الحديث 1/192.
[4] اجترت: أخرج البعير الطعام من بطْنِهِ ليَمضُغَه ثم يَبْلَعه. انظر: ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 1/729.
[5] يربض الرهط: أي يُرْوِيهم ويثقلهم حتى يناموا، ويَمْتَدُّوا على الأرض. انظر السابق 2/460.
[6] ثَجًّا: أي لبنًا سائلاً كثيرًا. انظر السابق 1/585.
[7] بَهَاءَ اللبن: هو وَبِيصُ رغوته. انظر السابق 1/443.
[8] الحاكم (4274)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[9] مجتابي النِّمار: أي لابسيها، والنمار: جمع نمرة وهي كلُّ شملةٍ مخطَّطة من مآزر الأعراب، كأنها أخذت من لون النّمر لما فيها من السَّواد والبياض. انظر: ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 1/832، 5/249.
[10] الصُّرَّة: ما يُجْمَعُ فيه الشيء ويُشَدُّ، انظر: المعجم الوسيط، مادة صرر 1/512.
[11] مسلم: كتاب الزكاة، باب الحثِّ على الصَّدقة ولو بشقِّ تمرة أو كلمة طيبة (2398)، والنسائي (2554)، وأحمد (19225).
[12] ابن حبان: كتاب البر والإحسان، باب الصدق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (288)، والحاكم (6547) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. والبيهقي (11066)، والطبراني: المعجم الكبير 5/164، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: روى ابن ماجة منه طرفًا، ورواه الطبراني ورجاله ثقات.
[13] مسلم: كتاب الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره (2054)، وابن حبان (5286)، وأبو يعلى (6168).