كان هدي النبي في الاعتكاف أكمل هدي وأيسره.
اعتكف مرة في العشر الأول ثم الأوسط يلتمس ليلة القدر, ثم تبين له أنها في العشر الأخير فداوم على اعتكاف العشر الأخير حتى لحق بربه عز وجل.
وترك مرة اعتكاف العشر الأخير فقضاه في شوال، فاعتكف العشر الأُوَل منه[1].
ولما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يومًا[2].
قيل: السبب في ذلك أنَّه علم بانقضاء أجله فأراد أن يستكثر من أعمال الخير ليبيِّن لأمَّته الاجتهاد في العمل إذا بلغوا أقصى العمل ليلقوا الله على خير أحوالهم. وقيل: السبب فيه أنَّ جبريل كان يعارضه بالقرآن في كل رمضان مرَّة, فلمَّا كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين، فلذلك اعتكف قدر ما كان يعتكف مرتين.
وأقوى من ذلك أنَّه إنما اعتكف في ذلك العام عشرين؛ لأنَّه كان العام الذي قبله مسافرًا, ويدلُّ لذلك ما أخرجه النسائي واللفظ له وأبو داود وصحَّحه ابن حبَّان وغيره من حديث أبيّ بن كعب "أنَّ النَّبيّ كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان, فسافر عامًا فلم يعتكف, فلمَّا كان العام المقبل اعتكف عشرين"[3].
وكان يأمر بخباء (على مثل هيئة الخيمة) فيضرب له في المسجد, فيمكث فيه, يخلو فيه عن الناس, ويقبل على ربه تبارك وتعالى, حتى تتم له الخلوة بصورة واقعية.
واعتكف مرة في قُبَّة تركية (أي خيمة صغيرة)، وجعل على بابها حصيرًا[4].
قال ابن القيم في "زاد المعاد" (2/90): "كل هذا تحصيلاً لمقصود الاعتكاف وروحه, عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة, ومجلبة للزائرين, وأخذهم بأطراف الحديث بينهم, فهذا لون, والاعتكاف النبوي لون".
وكان دائم المكث في المسجد لا يخرج منه إلا لقضاء الحاجة, قالت عائشة رضي الله عنها: "وَكَانَ لا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلا لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا"[5].
وكان يحافظ على نظافته، فكان يخرج رأسه من المسجد إلى حجرة عائشة فتغسل له رأسه وتسرحه.
روى البخاري (2028) ومسلم (297) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ النَّبِيُّ يُصْغِي إِلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ (أي: معتكف) فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ. وفي رواية للبخاري ومسلم: (فَأَغْسِلُهُ). وترجيل الشعر تسريحه.
قال الحافظ: "وَفِي الْحَدِيث جَوَاز التَّنَظُّفِ وَالتَّطَيُّبِ وَالْغَسْلِ وَالْحَلْقِ وَالتَّزَيُّن إِلْحَاقًا بِالتَّرَجُّلِ , وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّهُ لا يُكْرَهُ فِيهِ إِلا مَا يُكْرَه فِي الْمَسْجِدِ".
وكان من هديه إذا كان معتكفًا ألاّ يعود مريضًا ولا يشهد جنازة؛ وذلك من أجل التركيز الكلي لمناجاة الله تعالى, وتحقيق الحكمة من الاعتكاف وهي الانقطاع عن الناس والإقبال على الله تعالى.
قالت عائشة: "السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لا يَعُودَ مَرِيضًا, وَلا يَشْهَدَ جَنَازَةً, وَلا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلا يُبَاشِرَهَا, وَلا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إِلا لِمَا لا بُدَّ مِنْهُ"[6].
"وَلا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلا يُبَاشِرَهَا" تريد بذلك الجماع. قاله الشوكاني في "نيل الأوطار".
وكانت بعض أزواجه تزوره وهو معتكف ، فلما قامت لتذهب قام معها ليوصلها, وكان ذلك ليلاً.
فعن صَفِيَّةَ زَوْج النَّبِيِّ أَنَّهَا جَاءَتْ إلى رَسُولِ اللَّهِ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ في العشر الأواخر من رمضان, فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً, ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِيُّ مَعَهَا يَقْلِبُهَا. أي: ليردها إلى منزلها[7].
وخلاصة القول كان اعتكافه يتسم باليسر وعدم التشدد, وكان وقته كله ذكرًا لله تعالى وإقبالاً على طاعته؛ التماسًا لليلة القدر[8].