عمر بن عبد العزيز
انج سعد .. فقد هلك سعيد
فأما منهج المروانيين في القسوة والبطش, فيبدو واضحا في اصطناعهم الحجاج ونظراء الحجاج.
لقد اختاره ((عبد الملك)) لقتال ((عبد الله بن الزبير)) لمجرد أنه ندب نفسه لهذه المهمة التعسة قائلا ل((عبد الملك)) : "لقد رأيتني في المنام أمسك ب((عبد الله بن الزبير)), ثم أقوم بسلخه, فابعثني إليه وولني أمر قتاله ..!!
وعلى الفور يبعثه ((عبد الملك)), ليحقق رؤياه, وليقوم بسلخ ابن حواري رسول الله .. وابن ((أسماء)) ذات النطاقين . . والعابد القانت الأواب .. !!
ومضى ((الحجاج)) إلى غايته, فما أبقى على حرمة ..
نصب المنجنيق فوق جبل ((قبيس)) ورمى به المسجد الحرام في الشهر الحرام, والمسلمون يؤدون شعائر الحج ومناسكه ..!!
وتلقى مكافأته من ((عبد الملك)) الذي ولاه على مكة والمدينة واليمن واليمامة. ثم نقله إلى العراق ليصب عليه بطشه .
ولا يكاد يضع قدمه فوق أرضه حتى يخطب في أهله خطبته المشهورة :
" إني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها, وإني لصاحبها .. ولكأني انظر إلى الدماء بين العمائم واللحى, قد شمرت عن ساقها تشميرا ... وقسما بالله, لأخذن الولي بذنب مولاه, والمقيم يذنب الظاعن, والمطيع بذنب العاصي, حتى يلقى الرجل أخاه, فيقول له : ( انج سعد .. فقد هلك سعيد ) " !!
انج سعد, فقد هلك سعيد ...!!
هذا هو الوصف الصحيح للتركة القاتلة التي سيخلفها بنو مروان للرجل الصالح ((عمر بن عبد العزيز)) ..
القتل, والقتل, والقتل, حتى تمتلئ الأرض أشلاء ودماء . . !!
ولقد شهد شاهد من أهلها بوحشية الطغيان الذي ميز ذلك الميراث الرهيب .. ذلكم هو ((عبد الملك بن مروان)) نفسه, الذي راح يردد في مرض موته كلمات الندم هذه :
"ماذا سأقول يوم المسالة عن أمر الحجاج؟ "
بل لقد هم ذات يوم أن يعزله, وكتب إليه كتابا مملوءا بقوارع القول, ومختوما بهذه العبارة:
"...فاعتزل عمل أمير المؤمنين, واظعن عنه باللعنة المستحقة, والعقوبة الناهكة" ...!!
لكنه عاد فاستبقاه خوفا على ملكه وسلطانه ..!!
ولم يكن سفك الدماء المظهر الوحيد لتلك القسوة .. بل كان هناك إذلال الناس بغير حق ..فالموالي – وهم المسلمون من غير العرب, والذين يعطيهم الإسلام كل ما أعطى للمسلم من حق – راح بنو مروان يحرمونهم حقهم في بيت المال. ويحرمون عليهم وظائف الدولة, ويفرضون عليهم الجزية بحجة أنهم دخلوا الإسلام تهربا من دفعها ..!!
مع أنهم قد نبغ من صفوفهم الكثرة الكاثرة من علماء الإسلام وأئمته وعباده ونساكه.
كما كان هناك إغراء الناس بعضهم ببعض, وذلك أيضا بتقسيمهم الأمة إلى عرب, وموال .. وأحياء العصبية القبلية التي بدأها معاوية مع المضريين, والقيسيين, واليمانيين ..!!
هذا عن القسوة ......
-فأما الفساد فقد طمر كل شئ في الدولة, وفي الأمة ..خربت الذمم, فراح كل قادر على النهب ينتهب ما تصل إليه يداه. وغابت الأخلاق, فشاع الترف والانحلال.
ووراء الفساد سار الخراب, فأخذت الأزمات المالية بخناق الدولة, ومحق إنتاجها, حتى أن العراق – وهو أغنى أقاليمها يومئذ – لم يكن يغل في عهد ((الحجاج)) أكثر من خمسة وعشرين ألف درهم, وهو الذي كانت غلته من قبل, وحتى عهد ((معاوية)), تبلغ مائة وعشرين مليونا من الدراهم ..هذا, مع أن ((الحجاج)) لم تعرف عنه خيانة ولا إثراء غير مشروع, لكنها حروبه التي كانت تولدها قسوته, وكذلك إسرافه في اصطناع العملاء والإغداق عليهم بغير حساب, والقتل الذي أجهز على الجموع العاملة, في الزراعة, والتجارة, والحرف الأخرى ...!!
-ولقد واكب هذه القسوة وهذا الفساد تزييف كامل لقيم الدين وقيم الحياة .. وحسبنا لهذا التزييف المهين مثلا, أن نرى منابر المساجد في كل الأقطار الإسلامية الرازحة تحت حكم الأمويين, يلعن من فوقها بطل الإسلام العظيم وابنه البار, وإمامه الأواب ((علي بن أبي طالب)) !!!
اجل .. يفرض على الخطباء أن يلعنوه . . ومتى . . ؟ في خطبة الجمعة التي يستهلونها قائلين: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" . . آل محمد الذين يأخذ ((علي)) فيهم مكان الدرة الفريدة في العقد المنظوم . . . !!!
أهناك تزييف للقيم, بل إلغاء للمنطق وكرامة العقل أكثر من هذا ..؟؟!!!
على إن هذا التزييف للحق وللحقيقة, قام على أكتاف الشعر, والشعراء الذين تولوا كبره, واحتملوا وزره . . ولعل هذا يفسر لنا الموقف الذي سيتخذه منهم ((عمر بن عبد العزيز)) حين يحمل مسئولية الخلافة, فلسوف نراه يطردهم عن بابه, ويحرمهم العطاء الغدق الذي كانوا يتقاضونه من أموال المسلمين ثمنا لكذبهم ونفاقهم . .
لقد كان لكل بلاط شعراؤه . . ولكل وال وأمير مادحوه .. حيث إن الشعر كان وقتئذ ثقافة العصر ولغته, وكان شغف الناس وإقبالهم عليه عظيما .
ومن ثم فإن الخليفة الذي كان يريد أن يجرع الأمة أكذوبة أو ينسيها حقا, لم يكن يجد وسيلة لذلك أفضل من الشعر. وهكذا استخدم الشعر أسوا استخدام لتزييف الصدق والخير, ولطمس الحقيقة في وجدان الناس ووعيهم, ولإثارة البلبلة في خواطرهم, وتوهين علاقاتهم بالقيم والأخلاق .
فماذا يربط الناس بالقيم حين يرون خليفتهم ((عبد الملك بن مروان)) يصطفي لنفسه الأخطل, وهو يذكر هجاءه المقذع للأنصار الذين بواهم القران والرسول مكانا عليا . .؟؟
لقد فقد الناس إيمانهم بأشياء كثيرة, ووقعوا في تيه مظلم بين ما يبصرون وما يسمعون, وتحطمت أعصابهم تحت وطأة الكذب, والزيف, والبهتان .
وتاهت في الزحام أصوات القلة المؤمنة الورعة – أمثال ((الحسن البصري)) وإخوانه – ففقدت العقيدة سلطانها, وعاد الإسلام غريبا : أو كالغريب ..!!
وكما كان ((الحنفاء)) في الجاهلية يقلبون وجوههم في السماء, ويهيمون بين الجبال باحثين عن النبي المنتظر, يخرجهم من الظلمات إلى النور – راح الحنفاء, والمظلومون: والمقهورون في ذلك العهد الأموي يتطلعون إلى السماء في انتظار النجم الذي يجدد الله به دينه . . والذي يرد للخلافة كرامتها وقدرها, ويضع عن الناس إصرهم, والأغلال التي كانت عليهم . .
صحيح إن التركة القاتلة, والميراث رهيب, لكن عون الله واصطفاءه كافيان لجعل العسر يسرا . . .
لقد كان الأمر بحاجة إلى معجزة . .
أفما آن للمتعبين أن يظفروا منها بواحدة ؟؟
بلى, إن . .
وإن رحمة الله لواسعة . .
وإن عطاءه لجزيل . .