لم تتوقف الاجتهادات المستمرة التي قامت بها الإنسانية من أجل فهم أفضل للكون المحيط بنا، ولن تتوقف. إن محاولة الانسجام مع الكون، ومع هذا الكوكب الثمين جداً المدعو بالأرض، لا تقتصر على شعب معين أو على معتقدات بعينها، بل نرى آثارها في كافة الأزمنة وكافة الأوطان وكافة الأديان، ما انقرض منها وما بقي إلى يومنا هذا.
سأخصُّ بالذكر هاهنا بعض المعتقدات الصينية التاوية المدعوة بالـتشي كونغ qi gung، لجهة غناها بالمعتقدات القائمة على مبدأ الانسجام مع الكون وتوضيحها لها توضيحاً عملياً، ولأنها أبدت استمرارية زمنية كبيرة تقارب حوالى 12000 سنة، ناهيكم عن بساطتها المتناهية.
يأتي تعبير تشي كونغ من مقطعين صينيين: الأول هو تشي، ويعني الطاقة، التنفس، الهواء، الحيوية، والثاني هو كونغ، ويعني العمل، الجهد، التمرين. وبالتالي تدلُّ كلمة تشي كونغ على تمارين التنفس أو أعمال الطاقة. والحق أنه قد ثبتت لممارسي التشي الكونغ، لليوغا الهندي، وللعديد من الممارسات الروحية والبدنية، الأهميةُ البالغة التي يلعبها، في حياة الإنسان الداخلية، التنفسُ والقدرة الماهرة على ضبطه، وعلى التحكم بسيلان الطاقة وتوازنها داخل الجسم، وعلى إحداث انسجام بين طاقة الإنسان والطاقة الطبيعية والكونية.
والآن، ماذا يعني التشي كونغ بحدِّ ذاته؟ إن التشي كونغ هو منهاج قديم جداً من أجل تطوير النفس، يعتمد – بعكس الكونفوشية (والحق أن الاختلاف بينهما ظاهري أكثر منه حقيقي) – على الإمكانية والمسؤولية الفرديتين للحفاظ على الصحة وتطوير الحيوية وإطالة الحياة، في الوقت نفسه الذي يقوم به الفرد بتطوير الوعي الروحي والبصيرة. يعتمد التشي كونغ في هذا على:
1. تمارين بدنية سكونية وحركية بالوضعيات المختلفة للاستلقاء والجلوس والوقوف والمشي.
2. ضبط التنفس والقيام بحركات تنفسية متناغمة مع الحركات البدنية.
3. بعد تهيئة البدن وإعطائه الاسترخاء المطلوب عن طريق التمارين والتنفس، يُعمَد إلى اتخاذ وضعيات معينة، تأملية وروحية، مستقاة من مراقبة الطبيعة وحركات الحيوانات والأجرام السماوية
4. يدخل في بعض الممارسات استعمال الأصوات والروائح وترداد مقاطع صوتية معينة، وخاصة في التشي كونغ البوذي.
5. يركِّز التشي كونغ التاوي على الخيمياء (الكيمياء القديمة) الداخلية التي سأذكرها لاحقاً. والغاية منها أن يصل الإنسان إلى وحدة تامة مع الطبيعة في كل عمل يقوم به ويمارسه، وأن يُحدِث تغييراً كاملاً في سيلان الطاقة داخل الجسم لتصير أكثر انسجاماً مع الطبيعة، الأمر الذي يغير التفاعلات الكيميائية داخل الجسم لتصبح أكثر عطاء للطاقة واستفادة منها، فتُغلِّب في الجملة العصبية نشاط الجملة نظيرة الودية parasympathetic nervous system التي تتميز بالاسترخاء وعدم التوتر، بعكس الجملة الودية sympathetic nervous system التي ترهق الجسم من خلال منعكس الصراع أو الهرب fight or flight.
فلنبدأ بلمحة تاريخية عن هذه المدرسة.
1. تاريخ التشي كونغ
تضرب جذور التشي كونغ في عصور ما قبل التاريخ عندما كانت بعض القبائل في الصين تقوم برقصات احتفالية تدعى بالـ da-wu (الرقصة الكبرى) التي لوحظ أنها أعطت فوائد علاجية للذين قاموا بها. تم هذا الاكتشاف حوالى 10000 ق م. في تلك الأيام كان التشي كونغ وجميع أشكال التطبيب حكراً على الأطباء السحرة المعروفين بالشَمَنيَّة Chamans الذين كان يتمثَّل دورهم في التعامل مع قوى السماء والأرض من أجل فائدة الإنسانية. إن أوائل الكتابات عن التشي كونغ تعود إلى قبل 4000 سنة، عندما طُوِّرت رقصة أخرى من أجل إبعاد المرض، أُسُّها تنظيم التنفس وتوازن الطاقة، وكانت تمارَس كنوع من العلاج الوقائي في المناطق الشمالية من الصين (حيث حوض النهر الأصفر) التي كانت تُبتلى بالفيضانات وتشتد فيها الرطوبة، مما يؤهِّب للإصابة بالروماتيزم والدوالي وبطء الدوران و"ركود الطاقة"، بحسب تعبير الصينيين.
في القرن الثالث ق م كان التشي كونغ قد بلغ درجة متطورة وأصبح له الدور الأساسي في الحقول الثلاثة المعروفة: الطب، التأمل والفنون القتالية. وفي الحقيقة، ما تزال كل مدارس التشي كونغ، على تنوعها الكبير في الصين وكوريا واليابان وماليزيا وسنغافورة وتايلاند وغيرها، تندرج تحت ثلاثة حقول أساسية: طبية، تأملية، قتالية، وتهدف كلها في النهاية إلى الحصول على صحة أفضل، وعمر أطول، وتوازن فسيولوجي ونفسي، وذهن صافٍ متوقد، وانسجام روحي.
كتب Fu Yi حوالى 2000 ق م: "إن التشي كونغ فن يرضي الروح، يبطئ الشيخوخة ويطيل الحياة." وفي الأدب التاوي ما يزال الإمبراطور الأصفر Huang-Ti هو المرجع الأساسي الذي نُسِب به التشي كونغ – هو الذي عاش حتى عمر 111 سنة، وحكم مجموعة من القبائل في شمال الصين حوالى 2700 ق م، ويقال إنه مارس التأمل وتمارين التنفس بشكل يومي منتظم، وطور الخيمياء alchemy الداخلية لليوغا الجنسي التاوي من خلال ممارسته لهذه الرياضة الجنسية دون قذف مع حريمه البالغ 1200 امرأة! إن مناقشات الإمبراطور الأصفر مع رئيس أطبائه مدوَّنة في الكتاب الطبي الصيني المعروف بـكتاب الإمبراطور الأصفر الكلاسي في الطب الداخلي Huang-Ti nei Ching.
يمكننا أن نؤرِّخ لتاريخ التشي كونغ عبر الحقب التاريخية من تاريخ الصين كما يلي مكمل ع فترات