الاخلاص والصيام
=============
هنيئا لكم أيها المؤمنون
على هذا الفضل العظيم الذي أكرمكم الله به ، إذ مد في أعماركم حتى بلغتم رمضان ، وبلوغ رمضان أمنية كان يتمناها نبيكم عليه الصلاة والسلام ، فكان يدعو الله قائلا : ((اللهم بارك لنا في رجب وشعبان و بلغنا رمضان)) ،
وبلوغ رمضان هو أحد أسباب المغفرة ، فقد جاء في الحديث : ((الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ)) أخرجه مسلم في صحيحه رقم[233]
وإن أول ما نبدأ به حديثنا في سلسلة هذه الدروس الرمضانية المباركة ، إخلاص النية لله رب العالمين ، وذلك لأن الأعمال كلها لا تقوم ولا تستقيم إلا بالإخلاص لله وحده ، فالإخلاص هو جوهر العبادة، وهو شرط قبول العمل ، فهو بمنزلة الأساس للبنيان ، و بمنزلة الروح للجسد ، فلا أجر و لا ثواب على أي عمل مهما عظم إلا بالإخلاص ،
قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ"أخرجه البخاري في صحيحه ،
فــــ(النيات) جمع نية ، وهي القصد وعزم القلب على فعل أمر من الأمور ، و قوله : ( إنما الأعمال بالنيات) أي أن صحة الأعمال إنما تكون بالنية ، والثواب عليها إنما يكون بالنية ، فمن الناس من لهم أعمال كأمثال الجبال ، لكنهم لا يجدون منها شيئا ، وذلك لفساد نياتهم ، وقد قال الله تعالى - مخبراً عن أعمال الكافرين التي لا إخلاص فيها- : " وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً "
و هذا الإحباط للعمل ينطبق على كل من لم يخلص عمله لله تعالى .
فالله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خاصا لوجهه الكريم ،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري ، تركته وشركه" رواه مسلم .
و روى عن طاووس أن رجلا قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَقِفُ الْمَوَاقِفَ أُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، وَأُحِبُّ أَنْ يُرَى مَوْطِنِي ( أي يحب أن يطلع الناس على مواقفه الشجاعة ) فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ، حَتَّى نَزَلَتْ هذه الآية " فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً" .
وجاء رَجُلٌ إِلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، فَقَالَ أَنْبِئْنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، أَرَأَيْتَ رَجُلًا يُصَلِّي يَبْتَغِي وجه الله ويحب أن يحمد ( أي يحب أن يثني عليه الناس ) ويصوم يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويتصدق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد، ويحج يبتغي وَجْهَ اللَّهِ وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ، فَقَالَ عُبَادَةُ: لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَعِي شريك فهو له كله ولا حاجة لي فيه).
وروى الإمام أحمد عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَأَبْكَانِي. سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: " أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ الْخَفِيَّةَ" ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! أَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: " نَعَمْ أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حجراً ولا وثناً، ولكن يراؤون بِأَعْمَالِهِمْ، وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ أَنْ يُصْبِحَ أَحَدُهُمْ صَائِمًا فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيَتْرُكُ صَوْمَهُ " أخرجه الإمام أحمدوابن ماجه.
واعلموا أيها الإخوة أن الله تبارك وتعالى يعطي الثواب الكثير على العمل الخالص و لو كان قليلا ، بينما لا يعطي شيئاً على العمل غير الخاص مهما كثر ، فعن عبد الله بن عمرو عن النبي قال:" لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين" أخرجه مسلم في صحيحه. وروي أيضا أن بغي من بغايا بني إسرائيل سقت كلبا فغفر لها .
قال ابن تيمية - رحمه الله معلقاً على الحديثين -: " فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها ، وإلا فليس كل بغي سقت كلباً يغفر لها" .
نعم أيها الإخوة : فالأعمال إنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإجلال لله تعالى ، فنحن كلنا نصوم رمضان ، و كلنا نصلي التراويح ، و كلنا نقرأ القرآن و نتصدق بفضول أموالنا.......... فأعمالنا من حيث صورتها متماثلة ، لكنها من حيث قبولها والثواب عليها تختلف اختلافا كبيرا ، قال ابن القيم رحمه الله: " ...الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها ، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب ، فتكون صورة العملين واحدة ، و بينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض.... "
وإذا كانت النية الصالحة تحقق لصاحبها القبول الواسع ، وتحط عنه أقبح السيئات ، وترفعه إلى أعالي الدرجات ، فإن النية الفاسدة قد تجعل الطاعة معصية تستجلب لصاحبها الويل والثبور ، كما في قوله تعالى ، "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون و يمنعون الماعون" فالصلاة – وهي من أجل العبادات – صارت جريمة بعد ما فقدت روح الإخلاص فيها ، وقل مثل ذلك في الصيام والزكاة والحج والجهاد ............
وقال صلى الله عليه وسلم : "إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به، فعرفه نعمته فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت ليقال: جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به يعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت؟ قال تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكن تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من صنوف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ألا أنفقت فيها قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار" [رواه مسلم]
فانظروا أيها الإخوة : أن الاستشهاد في سبيل الله ، وتعلم العلم وتعليمه ، وقراءة القرآن العظيم ، والإنفاق والتصدق ، هذه كلها أعمال جليلة ، لكنها لما خلت من الإخلاص لله تعالى انتهت بأصحابها إلى هذا المصير !!!
فنعوذ بالله من سوء النية وخبث الطوية ، و نسأله تعالى ألا تنصرف قلوبنا إلا إليه ، آمين .
أخي المسلم اتق الله ودع أمر الناس جانبا ، واعتبر وجودهم وعدمهم سواء ، فإنهم لا يملكون لك ضرا و لا نفعا، واخلص نيتك لله وحده ، واعلم أن نجاتك يوم القيامة متوقفة على مدى إخلاصك لله تعالى ، قال أبو حامد الغزالي رحمه الله : "فقد انكشف لأرباب القلوب ببصيرة الإيمان وأنوار القرآن أن لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة فالناس كلهم هلكى إلا العالمون؛ والعالمون كلهم هلكى العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم"
===========
تقبل الله صيام الجميع بمزيد من الاجر والمغفرة والثواب