التوبة والصيام
تمهيد
أيها المؤمنون: تقبل الله منا وإياكم الصيام والقيام ، ورزقنا وإياكم الصدق والإخلاص لوجهه الكريم ، وفي مجلس هذا اليوم سنتحدث عن التوبة ؛ لأن شهر رمضان هو شهر التوبة ، وهو فرصة ثمينة للتوبة النصوح التي تنقلنا من مرارة المعصية إلى لذة الطاعة، و من وحشة الغفلة إلى أنس الذكر، فالتوبة ملاذ مكين وملجأ حصين، يلجه المذنبون معترفين بذنوبهم ، راجين رحمة رهم ربه ، نادمين على أفعالهم ، غير مصرين على خطاياهم ، فيتبعون السيئة الحسنة ؛ فيكفر الله عنه سيئاتهم ويرفع لهم من درجاتهم ، والتوبة الصادقة تمحو الذنوب والسيئات مهما عظمت ، حتى الكفر والشرك ، لقوله تعالى : " قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ "[الأنفال:38].
حقيقة التوبة و شروطها
وحقيقة التوبة أيها المؤمنون: هي الإقلاع عن المعاصي، والندم عليها ، والعزم على عدم الرجوع إليها ، وينبغي أن يكون ذلك بدافع الحياء من الله ، فشتان بين من يترك المعاصي خوفا من ملامة الناس ، وبين من يتركها حياء من رب الناس !!!!
- ومن شروط التوبة أن تكون من قريب ، أي قبل أن يدركه الموت ، لقوله تعالى : "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا"(النساء17- 18). وعَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إنَّ اللَّهَ يَقْبلُ تَوْبَةَ العبدِ مَا لَمْ يُغَرغِر" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
- ومن شروطها أيضا أن تكون نصوحا ؛ لقوله تعالى : " تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا " ، والتوبة النصوح هي ما توفرت فيها الشوط الآتية :
1- أن يقلع التائب عن المعصية ، أي أن يبتعد عنها.
2- وأن يندم على فعلها ، فإن السرور بالمعصية أكبر من المعصية .
3- وأن يعزم على أن لا يعود إلى مثلها مرة أخرى .
هذه شروط التوبة إذا كانت المعصية بينك وبين الله ، أما إذا كانت المعصية تتعلق بحق من حقوق العباد ، فإنه بالإضافة إلى الشروط الثلاثة السابقة يوجد شرط رابع ، وهو أن يؤدي التائب حقَّ الناس ، فإن كان مالاً ردَّه إليهم ، وإن كان أرضاً عدَّل حدوده مع جيرانه ، وإن كان غيبةً أو نميمة أو طعنا في الأعراض فلا بد من طلب العفو والمسامحة ممن آذاهم وأشاع عنهم.
حكم التوبة ودعوة الإسلام إليها
واعلموا أيها الإخوة الكرام :أن التوبة واجبة على الفور ، فلا يجوز تأخيرها أو التكاسل فيها ، بل إن تأخير التوبة ذنب يحتاج هو الآخر إلى توبة ، والتوبة واجبَة على كلِّ مسلم ، لقوله تعالى : "وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] . فلا يستغني أحد عن التوبة أيا كان شأنه ، فمن كان واقعا فِي معصية كبيرة تجِب عليه التّوبة ؛ لئلاّ يبغتَه الموتُ وهو على ذلك ، فيندم حين لا ينفع الندم ، والواقعُ في معصية صغيرةٍ تجِب عليه التّوبة أيضا ؛ لأنّ الإصرارَ على الصغيرة يصيرها من الكبائر، وقد قال أهل العلم : ( لا كبيرة مع استغفار و لا صغيرة مع إصرار) ، بل و تجِب التّوبة حتى على من كان مؤدِّيا للواجباتِ تاركا للمحرّمات ؛ إذ لا يمكن لأحد أن يدعي بلوغ الكمال في امتثاله للمأمورات أو تركه للمحظورات ، فالمكلَّف لا ينفك من تقصير في طاعة ، أو سهو وغفلة ، أو خطأ ونسيان ، أو ذنب وخطيئة ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم" رواه مسلم . وقال أيضا : " كلكم خطاء، وخير الخطائين التوابون" أخرجه أحمد.
وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم – وهو الذي غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر – يتوب إلى الله ويستغفره في اليوم أكثر من سبعين مرة ، إذ روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً " ، وأين نحن من رسول الله ؟ فكيف لا نتوب إلى الله ونستغفره لذنوبنا ، والله تعالى ينادينا بقوله : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ "[التحريم:8]. وعن أبى موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " ( مسند أحمد 4/395).
الترغيب في التوبة والتحذير من تأخيرها
ومن فضل الله وكرمه على عباده أنه يفرح بهم إذا تابوا إليه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ " ( مسلم : كتاب التوبة 17/64،63).
ألا يسرك أخي أن يفرح بك خالقك ومولاك ! وكيف لا يطير قلبك شوقا إلى الله بعد سماعك لهذا الخبر ، الذي يبشرك بهذا الترحاب العظيم من الله تعالى بعباده التائبين !!
- واعلم أخي المسلم : أن أسعد أيام عمرك هو ذلك اليوم الذي تتوب فيه إلى الله ، جاء في قصة كعب بن مالك حينما تخلف عن غزوة تبوك ، ثم ندم على ذلك وتاب إلى الله ، فلمّا نزلت آية قبول توبته ، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه فسلّم عليه، فاستقبله النبي وهو يبرق وجهه من السّرور، وقال له: " أبشِر بخيرِ يومٍ مرّ عليك منذ ولدَتك أمّك "رواه البخاريّ ومسلم.
- ومهما بلغت ذنوبك – أخي المسلم – فلا تيأس من رحمة ربك ؛ فإن الله تعالى يناديك بقوله : " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ "(الزمر53). وقال تعالى : " وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ " (الشورى25). وفي الحديث : " التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ، كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ" رواه ابن ماجه. فقط عليك أن تتوب إلى الله وتستغفره قبل فوات الأوان ، ومما ينبغي أن تحذره التسويف وتأخير التوبة ؛ فهو من أعظم المهلكات ، التي تعترض سبيل التائبين ، ومعلوم أن الموت يأتي بغتة ، وأنه لا أحد يعلم ساعة موته ؛ فمن الحماقة – إذن- تأخير توبة اليوم إلى الغد .
=========
تقبل الله توبتكم وصيامكم