الشرط الأول: الإسلام
يتفق فيه كل الصحابة، وهو الإسلام، فلا يجوز لدولة إسلامية غالب سكانها من المسلمين أن يكون الحاكم نصرانيًّا أو يهوديًّا مثلاً، ولا تنظروا إلى ما يحدث في بعض بلدان العالم الإسلامي من ولاية النصارى على الدولة، مثل نيجيريا مثلاً، فهذه مخالفة شرعية واضحة.
الشرط الثاني: البلوغ
وهذا أيضًا يجتمع فيه كل الصحابة المرشحين للخلافة.
الشرط الثالث: الذكورة
لا بد أن يتولى أمور المسلمين وبالذات إمامة البلد والقيادة الأولى فيها رجل، أعلم أن بعض البلدان الإسلامية تجعل على رئاستها امرأة، ولعلهم يفتقرون إلى رجل تتوافر فيه شروط الإمامة، شرط الذكورة طبعًا يتوافر في كل المرشحين للخلافة في زمان الصحابة.
إذن هذه الشروط الثلاثة الإسلام والبلوغ والذكورة لا يتفاضل فيها أحد من الصحابة على أحد.
الشرط الرابع: العدالة
ثم شرط العدالة، والصحابة جميعًا عدول باتفاق العلماء، والعدالة: هي ملكة في الشخص تحمله على ملازمة التقوى والمروءة.
والتقوى، وإن كانت من الأعمال التي تحتاج توافق بين الظاهر والباطن، والسر والعلانية إلا أن التقوى التي يبنى عليها شرط العدالة هي التي يراها الناس فقط، فليس لأحد أن يطلع على قلب أحد، ومن هذا المنطق فإن تعريف التقوى المطلوبة في الخليفة هو: اجتناب الأعمال السيئة من الشرك والفسق والبدعة.
لا بد ألا يأتي بأي عمل من أعمال الشرك، ولا بد أن يجتنب الأمور التي يتهم صاحبها بالفسق، مثل ترك الصلاة، وترك الزكاة، وترك الصيام، وفعل الكبائر الأخرى كشرب الخمر، أو الزنا، أو المجاهرة بفحش القول والعمل، أو القتل بغير حق، أو الاستهزاء بالدين، ولا بد أيضًا أن يتجنب البدعة فضلاً عن أن يدعو لها، واختلفوا في الصغائر؛ أي اجتنابها شرط أم لا، واتفقوا على أن الإصرار عليها يخل بشرط العدالة، أما المراد بالمروءة فهو: التنزه عن النقائص التي قد تكون مباحة، ولكن لا تصح في حقه.
وهذه ترتبط بالشرع والعرف معًا، مثلاً كثرة المزاح، وضياع الهيبة مثلاً تسقط مروءة الرجل، وإن كان صادقًا في مزاحه، وقديمًا كانوا يعتبرون الأكل في الشوارع والأسواق من مسقطات المروءة، لكن العرف الآن يجيز ذلك ولم ينه الشرع عنه كذلك.
إذن شرط العدالة يقتضي أن يكون الخليفة تقيًّا صاحب مروءة وإن كنا قد ذكرنا أن الصحابة كلهم عدول من هذه الوجهة، إلا أنه من الواضح والمعلوم أن أبا بكر الصديق t هو أكثرهم عدالة، وأعظمهم تقوى، وأشدهم مروءة، لما سبق من الأحاديث ولشهادة رسول الله له بالإيمان والصحبة والدرجة العالية في الجنة.
شروط تفوق فيها الصديق t:
تأتي بعد الشروط السابق ذكرها والتي يشترك فيها جميع الصحابة المؤهلين للخلافة في ذلك الوقت؛ تأتي شروط أخرى في غاية الأهمية، وهي تحتاج إلى بعض البحث في أحوال الصحابة لنرى من هو أصلح الناس على ضوء هذه الشروط لتولي الخلافة، هذه الشروط المتبقية ثلاثة:
- الشجاعة والقوة والنجدة.
- العلم والدراية بأمور الفقه والدين والحياة بصفة عامة.
- حسن الرأي وحسن الإدارة والحكمة في المفاضلة بين الأمور.
طبعًا هناك شرط رابع تحدثنا عنه من قبل وهو أن يكون من قريش وهذا الشرط استثنى الأنصار كما ذكرنا من قبل.
فمع هذه الشروط الثلاثة؛ لكي نرى أين موقع الصديق منها:
الشجاعة والقوة والنجدة:
لا بد للخليفة أن يكون كذلك، وإلا ضاعت هيبة البلاد، قرار الحرب يحتاج إلى رجل شجاع لا يهاب الموت، بل يطلبه، إذا تردد الخليفة في نفسه ساعة، أو ساعتين، أو يومًا، أو يومين، قد تضيع البلاد نتيجة التردد والجبن.
أين الصديق t في صفة الشجاعة؟
روى البخاري عن عروة بن الزبير رحمه الله قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن أشد ما صنع المشركون برسول الله فقال: رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال: "أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟"
ففي هذا الموقف العصيب، محاولة لقتل رسول الله يأتي أبو بكر الصديق دون غيره من الصحابة، ويدافع عن رسول الله في موقف من أشد المواقف خطورة على حياة الرسول، وعلى حياة الصديق نفسه، لكنه إذا انتكهت حرمة الدين، أو حرمة الرسول لا ينظر لنفسه أبدًا.
انظروا إلى هذه الرواية التي رواها البزار في مسنده، وذكرها ابن حجر العسقلاني في فتح الباري عن شرحه للحديث السابق، هذه الرواية عن علي بن أبي طالب t قال علي t: "أَخبِروني من أشجع الناس؟", وكان وقتها أمير المؤمنين، قالوا: أنت. قال: "أما إني ما بارزت أحدًا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس". يقصد أنه شجاع، ولكن هناك من هو أشجع منه، فقال الناس: لا نعلم، فمن؟ قال: "أبو بكر".
ثم بدأ يفسر لهم، قال: إنه لما كان يوم بدر، فجعلنا لرسول الله عريشًا، فقلنا: من يكون مع رسول الله لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فو الله ما دنا أحد إلا أبو بكر شاهرًا بالسيف على رأس رسول الله ، لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه، فهو أشجع الناس..
ثم يكمل علي t ويقول: ولقد رأيت رسول الله وقد أخذته قريش -وهو هنا يقص موقفًا من مواقف مكة- فهذا يجبأه، وهذا يتلتله، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهًا واحدًا؟ قال: فوالله ما دنا منه أحد، إلا أبو بكر يضرب هذا، ويجبأ هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله.
ثم رفع علي t بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبوني؟ فوالله لساعة من أبي بكر خير من ألف ساعة من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه -أي مؤمن آل فرعون- وهذا رجل أعلن إيمانه, أي أبو بكر.
وثبات الصديق t مع رسول الله في جميع المشاهد، والغزوات معلوم بما في ذلك طبعًا في أحد وحنين حيث فر معظم القوم، ولم يبق إلا هو والقلة.
وشرط الشجاعة طبعًا يقصد به الشجاعة في القلب، والتي تؤدي إلى قرار شجاع غير متردد، وليس بالضرورة أن يكون صاحب الرأي الشجاع هو أمهر الناس في القتال، أو هو أقواهم جسدًا، ولكن المراد أن يأخذ القرار الشجاع المناسب في الموقف، حتى وإن كان على حساب حياته، لا يشترط في الخليفة طبعًا أن يقاتل بنفسه، حتى يشترط أن يكون أمهر الناس وأقواهم جسدًا، وإن كان أبو بكر كان يقاتل بنفسه أحيانًا t، وهو خليفة إذا تطلب الأمر ذلك، وهذا ما سنراه في حروب الردة مثلما خرج في حرب عبس وذبيان بنفسه لما غَزَتَا المدينة المنورة أثناء حرب الردة..
فأبو بكر الصديق t وإن كان رجلاً نحيلاً ضعيفًا في بنيته، إلا أنه كان أشجع الصحابة في قرار حروب الردة مثلاً، وقرار فتح فارس والروم، نعم هناك من الصحابة من أقوى منه جسدًا، وأمهر منه حربًا، ورميًا، لكن هذا لا يشترط في الخليفة إنما يشترط في قائد الجيوش أو الممارس للقتال، لذلك ولى رسول الله عمرو بن العاص على أبي بكر في موقعة ذات السلاسل؛ لأنه في هذه الجزئية يتفوق عمرو بن العاص، ولكن في شمول معنى القيادة للخلافة وللدولة، لا شك أن الصديق فاق الجميع, وهناك مثل يوضح هذا الأمر:
ذكرناه في حديثنا عن إنكار الذات عند الصديق وموقفه وهو يدافع عن رسول الله حتى نال منه المشركون وتورم وجهه t وكاد أن يموت، في هذا الموقف نجد أن الصديق دفعته شجاعته إلى الدفاع عن رسول الله ، لكن لم يكن له طاقة بالمشركين فضربوه، وهذا لا يطعن في شجاعته، بل على العكس فالرجل الجسيم القوي قد يحتمي وراء جسده، وقد يخفي في داخله قلبًا ضعيفًا يخشى الموت، ويطلب الحياة، بينما الرجل النحيل الضعيف إذا قدم على مهلكة واضحة كان هذا دليلاً على شجاعته، وبأسه واستهانته بالموت وطلبه للشهادة، ويقينه بالأجل، وهذا كله مما يرجى في خليفة المسلمين.
روى ابن إسحاق في سيرته وابن كثير في تفسيره وغيرهم أن أبا بكر t دخل بيت المدراس على يهود -بيت المدراس هو بيت يدرس فيه اليهود فيه التوراة- وكان دخول أبي بكر هذا في أول العهد المدني في زمن المعاهدة بين رسول الله واليهود، ولم يكن الرسول ممكنًا في المدينة بعد، وكان اليهود قوة لا يستهان بها في المدينة, سلاح، ورجال، وقلاع، وأموال، وأبو بكر الآن يدخل على اليهود في عقر دارهم في بيت المدراس، وقد اجتمع عدد ضخم من اليهود هناك وأبو بكر بمفرده، دخل أبو بكر فوجد منهم ناسًا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر من أحبارهم يقال له: أشيع، فقال أبو بكر لفنحاص: "ويحك، اتق الله وأسلم، فوالله إنك تعلم أن محمدًا لرسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل".
أبو بكر t أخذته الحمية للدين لما رأى فنحاص يعلم الناس التوراة المحرفة، ويبعدهم عن دين الله ، لم يفكر أنه وحيد في جحر الثعالب، كل ما فكر فيه هو دين الله ودعوة الإسلام، لكن فنحاص كان إنسانًا شريرًا قاسي القلب سيئ الأدب كعادة اليهود، قال للصديق t ما لم يتوقع الصديق أبدًا أن يسمعه من إنسان، قال: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه أغنياء وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنيًّا ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنيًّا ما أعطانا الربا.
هذا الكلام الفاحش من فنحاص يقصد به قول الله : {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245].
فيقول إن الله يستقرضنا، وسيعطينا مكانه أضعافًا كثيرة، فكأن هذا ربا وهو قد نهى عن الربا فكيف يعطيه، أمر عجيب وعقول مختلة وقلوب ميتة، المهم هذا ما قاله فنحاص، فماذا كان رد فعل الصديق t وهو يقف وحيدًا أمام جموع اليهود ها هو دين الله ينتقص أمام وجهه، وهو قد جعل لنفسه قانونًا لا ينساه: أينقص الدين وأنا حي.
فبماذا رد عليه الصديق؟
إنه لم يرد بلسانه، الصديق فاجئنا، وفاجأ فنحاص، وفاجأ اليهود بغضب شديد عظيم، ولم يشعر بنفسه إلا وهو يرفع يده فيضرب فنحاص في وجهه ضربًا شديدًا حتى سالت الدماء من وجه فنحاص، وتورم وجهه، وقال الصديق t: "والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك أي عدو الله".
وطبعًا اليهود مع كونهم كثرة إلا أنهم إن رأوا ثباتًا من الذين أمامهم دبت في قلوبهم الرهبة تملكهم الرعب والهلع، فلم يستطيعوا فعل شيء، وما تحرك منهم رجلٌ واحد، ولكن ذهب فنحاص إلى رسول الله فقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك. فقال رسول الله لأبي بكر: "مَا حَمَلَكَ علَى مَا صَنَعْتَ؟", فقال أبو بكر: يا رسول الله إن عدو الله قال قولاً عظيمًا، إنه يزعم أن الله فقير وأنهم أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال, وضربت وجهه, فجحد ذلك فنحاص وقال: والله يا محمد ما قلت ذلك، فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص ردًّا عليه وتصديقًا لأبي بكر: {لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ} [آل عمران: 181].
ونزل في أبي بكر الصديق t وما بلغه في ذلك من الغضب قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186].
لم يكن هذا وقت المواجهة مع اليهود، بل وقت الصبر، وسيأتي يوم المواجهة بعد ذلك.
الشاهد من القصة هو أن الصديق t لا تأخذه في الله لومة لائم، شجاع، مقدام، لا يتردد عن جهاد، ولا يفر من لقاء، ولا يتحمل أن ينتهك دين الله ولا يتحرك، هذه هي الشجاعة المرجوة في الخليفة، وهذا هو الإقدام المطلوب في قائد الأمة.
العلم والدراية بأمور الفقه والدين والحياة بصفة عامة:
إن الصديق t كان أعلم الصحابة، روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري t قال: خطب رسول الله فقال: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ". فبكى أبو بكر، وقال: "نَفْدِيكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا". يقول أبو سعيد الخدري: فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد خير؟ فكان رسول الله هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا.
وكان الصديق علمه غزير ويفتي في وجود الرسول وكانت هذه الخاصية له وحده، وأحيانًا لعمر t وليس لغيرهما، سئل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: من كان يفتي الناس في زمن الرسول ؟ فقال: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ما أعلم غيرهما.
- روى البخاري رحمه الله عن أبي قتادة t قال: لما كان يوم حنين نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلاً من المشركين وآخر من المشركين يختله -يريد أن يأخذه على غرة- من ورائه ليقتله، فأسرعت إلى الذي يختله، فرفع يده ليضربني وأضرب يده، فقطعتها ثم أخذني، فضمني ضمًّا شديدًا، حتى تخوفت، ثم ترك، فتحلل، ودفعته، ثم قتلته، وانهزم المسلمون وانهزمت معهم -وهذا كان في أول يوم في حنين- فإذا بعمر بن الخطاب في الناس، فقلت له: ما شأن الناس؟ أي لماذا يهربون؟ قال: أمر الله.
ثم تراجع الناس إلى رسول الله -يقصد انتصر المسلمون وانهزم المشركون- وبعد الموقعة قال رسول الله : "مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبَهُ". فقمت لألتمس بينة قتيلي، فلم أر أحدًا يشهد لي فجلست، ثم بدا لي فذكرت أمره لرسول الله فقال رجل من جلسائه: صدق وسلبه عندي فأرضه مني.
اعترف الرجل أن السلب معه، لكنه يريد أن يأخذه ويرضي أبا قتادة بشيء, هنا قام الصديق t وقال في حمية: كلا لا يعطه أصيبغ من قريش -أي طائر ضعيف- ويدع أسدًا من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله .
يستنكر الصديق t أن يأخذ الرجل من السلب شيئًا وإن كان معه، ولكن يعطيه لأبي قتادة كاملاً, فقال النبي : صدق فأعطه, فصدق على فتوى الصديق t وهو في حضرته.
- روى البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله يوم فطر، أو أضحى، وعندي جاريتان تغنيان بغناء الحرب، والشجاعة، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرهما وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله , فأقبل عليه رسول الله فقال: "دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَإِنَّ عِيدَنَا هَذَا الْيَوْمُ".
قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى: إن أهل السنة اتفقوا على أن أبا بكر هو أعلم الأمة، وحكي الإجماع على ذلك، ولعل سبب هذا العلم الغزير تفوقه على الصحابة وملازمته للنبي أكثر من غيره، فقد كان أدوم اجتماعًا به ليلاً ونهارًا وسفرًا وحضرًا، وما أكثر الأحاديث التي ذكر فيها رسول الله خرج وأبو بكر، أو دخل وأبو بكر، أو جلس وأبو بكر، وهكذا.
ولقد استعمله رسول الله على الحج، وهو يحتاج إلى علم غزير، واستعمله على الصلاة لكونه أعلم الناس، ولم يحفظ له قولاً يخالف فيه نصًّا ولا يعرف له غلط.
قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: استدل أصحابنا على عظم علمه بقوله t في الحديث الثابت في الصحيحين: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه.
واستدل أبو إسحاق بهذا وغيره على أن أبا بكر الصديق t أعلم الصحابة؛ لأنهم كلهم وقفوا عن فهم الحكم في المسألة إلا هو، ثم ظهر لهم بعد المباحثة أن قوله هو الصواب فرجعوا إليه.
- روى ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : "رَأَيْتُ كَأَنِّي أُعْطِيتُ عُسًّا -قدحًا كبيرًا- مَمْلُوءًا لَبَنًا، فَشَرِبْتُ مِنْهُ حَتَّى تَمَلأْتُ، فَرَأَيْتُهَا تَجْرِي فِي عُرُوقِي بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ، فَفَضُلَتْ مِنْهَا فَضْلَةٌ، فَأَعْطَيْتُهَا أَبَا بَكْرٍ".
قالوا: يا رسول الله هذا علم أعطاكه الله، حتى إذا تملأت منه، فضلت فضلة فأعطيتها أبا بكر, فقال : "قَدْ أَصَبْتُمْ".
وقد ظهرت عظمة علمه ودرايته، وأدلته عند موت رسول الله ، وظهر تفوقه الواضح على الصحابة، حيث بَيّن لهم موت النبي ، والآيات التي جعلت الجميع يقبل بالمصيبة، ويصبر عليها، ثم بَيّن لهم موضع دفنه وكانوا قد اختلفوا على ذلك، ثم بَيّن لهم ميراثه، وكانوا أيضًا اختلفوا على ذلك، وبَيّن لهم قتال مانعي الزكاة كما أشرنا من قبل، وَبَيّن لهم أن الخلافة في قريش، ولم يذكرها أحد قبله في السقيفة، وَبَيّن لهم وجوب إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
ومن كل ما سبق يتبين مدى غزارة علم الصديق t، وأنه بحق أعلم الصحابة.
حسن الرأي وحسن الإدارة والحكمة في المفاضلة بين الأمور:
فإذا قال أحد الناس أنه نعم كان عالمًا، لكن قد يفوقه آخرون في حسن الرأي، وفي استغلال العلم الذي يعلمه، فإننا نرد على ذلك بأن الصديق كان أعظم الصحابة رأيًا وأحكمهم في التصرف، وكان رسول الله دائم الاستشارة للصديق t، وكان أحيانًا يستشيره بمفرده، وأحيانًا يستشيره مع الصحابة، وكان يميل إلى رأيه دائمًا ، ظهر ذلك واضحًا مثلاً في استشارته في أمر قتال المشركين في بدر، وظهر في أمر الأسارى في بدر، وفي الحديبية لما توافقت كلماته ورأيه مع كلمات ورأي رسول الله .
- أخرج أحمد عن عبد الرحمن بن غنم، والطبراني عن البراء بن عازب أن رسول الله قال لأبي بكر وعمر: "لَوِ اجْتَمَعْتُمَا فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا".
وظهر من حسن الرأي للصديق t في أيام خلافته ما يعجز البيان عن وصفه، وهناك تفصيلات كثيرة، ولا يخفى ما في حسن اختياره لعمر بن الخطاب خليفة من بعده ما أصلح للأمة أمرها، وقوّى من شأنها، فالرجل فعلاً مسدد الرأي وعظيم الحكمة، ومن العسير فعلاً أن تبحث له عن خطأ في رأي، أو في حكم، أو في قضية.
- روى الطبراني وأبو نعيم وغيرهما عن معاذ بن جبل t أن النبي لما أراد أن يُسَرّح معاذ إلى اليمن استشار ناسًا من أصحابه فيهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وأسيد بن حضير، فتكلم القوم كل إنسان برأيه، فقال النبي : "مَا تَرَى يَا مُعَاذُ؟" قال معاذ: أرى ما قال أبو بكر. فقال النبي : "إِنَّ اللَّه يَكْرَه فَوْقَ سَمَائِهِ أَنْ يُخَطَّأَ أَبُو بَكْرٍ".
وروى ذلك الحارث بن أبي أسامة في مسنده بلفظ: "إِنَّ اللَّهُ يَكْرَهُ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُخَطَّأَ أَبْو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي الأَرْضِ".
وأخرج ذلك الطبراني عن سهل بن سعد الساعدي t قال: قال رسول الله : "إِنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ أَنْ يُخَطَّأَ أَبُو بَكْرٍ". وقال: رجاله ثقات.
واستدل ابن القيم رحمه الله على فضل الصديق بهذا الحديث، وأضاف أن الرسول لم يُخَطِّئ أبا بكر إلا في تعبيره لبعض الرؤيا، وإن الصديق من أعرف الصحابة بتعبير الرؤيا، وقال: إن المقصود بالتّخْطِيءِ الذي لا يرضاه الله هو تخطِيء البشر العاديين من غير رسول الله لأبي بكر.
ومع هذا العلم الغزير والرأي الحكيم إلا أنه كان دائم الاستشارة لأصحابه، ولم يكن يعتد برأيه حتى في قضايا حروب الردة، وإنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فإنه وإن كان صاحب رأي مختلف، إلا أنه لم يفعله إلا بعد إقناع الصحابة برأيه وعلموا أن الحق معه.
أخرج أبو القاسم البغوي عن ميمون بن مهران رحمه الله قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم -أي المختصمون في قضية- نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي به بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله في ذلك الأمر سنة فقضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء؟
فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله فيه قضاء فيقول أبو بكر: الحمد الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا.
فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله جمع رءوس الناس، وخيارهم، فاستشارهم، فإن أجمع الناس أمرهم على رأي قضى به.
مما سبق يتضح أن الصديق t لم يجمع فقط صفات الخليفة، بل فاق فيها كل الصحابة وبسبق واضح، أجمع على ذلك الصحابة المعاصرون له، وأجمع على ذلك العلماء الأجلاء المتابعون للأحداث، والمحللون لها، فكان اختياره حقًّا اختيار العقل الحكيم، والرأي السديد.
إذن بالعقل والمنطق والحكمة لا بد أن يكون الصديق t هو خليفة المسلمين بعد رسول الله ، هذا الأمر مجرد من أي إشارة أو تلميح من رسول الله بخلافة الصديق، فما بالكم إن كان رسول الله قد أشار في أحاديث عدة، وفي مواقف مختلفة إلى رغبته في أن يخلفه الصديق t، وهذا لا شك يزيد من موقف الصديق قوة، ويؤيد الرأي الحكيم الذي اجتمع عليه صالحو الأمة وحكماؤها من الصحابة الكرام.
وفي الفقرة القادمة سنتحدث عن الأحاديث التي أشارت إلى خلافة الصديق، وآراء العلماء في ذلك، واستنباط خلافة الصديق من بعض آيات القرآن الكريم، ثم لماذا لم يصرح رسول الله بخلافة الصديق t بدلاً من التلميح والإشارة.