فارقت روح الدكتور عبد الحميد الغزالي الخبير المصرفي التنموي الشهير, وأحد أهم أعلام الاقتصاد الإسلامي في العالم الحياة بعد أن فارقت روح مصر اليأس من التغيير..
حيث رحل الفقيد عن عمر ناهز 71 عاما بعد مرض قاس ألم به في السنوات الأخيرة حيث اشتغل الغزالي بالتدريس والتأصيل لنظريات المصرفية الإسلامية ومحاولة إيجاد اقتصاد إسلامي مواز للصيرفة التقليدية.
ولد الدكتور عبد الحميد حسن الغزالي في 23 فبراير 1937م بقرية ميت شهالة التابعة لمركز الشهداء بمحافظة المنوفية.
كان الغزالي عضوًا بمجلس شورى الإخوان, ومسئولاً عن القسم السياسي قرابة 8 سنوات ثم عمل مستشارًا سياسيًّا للمرشد العام للإخوان المسلمين.
وقد ألقى القبض عليه بسبب انتمائه للإخوان ثلاث مرات الأولى سنة 1954م وهو في المرحلة الثانوية والثانية سنة 1971م في انتفاضة الطلبة ثم مع مجموعة ما يسمى بحزب الوسط وكان معه المرشد السابق للإخوان محمد مهدي عاكف وحكم عليهم بثلاث سنوات.
حصل الغزالي على دكتوراه الفلسفة في الاقتصاد في المملكة المتحدة 1968م, وعضو هيئة التدريس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ـ جامعة القاهرة, منذ 1968م حتى وفاته كما كان عضوًا بالمكتب الفني واللجان العلمية برابطة الجامعات الإسلامية.
كما عمل أستاذًا زائرًا في العديد من الجامعات العربية والإسلامية وشغل العديد من المناصب الاستشارية في مصارف عربية وإسلامية.
كما أسس وأشرف على مركز الاقتصاد الإسلامي بالقاهرة 1985م ـ 1990م وكذلك عمل مديرًا للمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب ـ البنك الإسلامي للتنمية 1411هـ ـ 1415هـ.
وكان رئيسًا للجنة تنسيق البحوث بين البنوك الإسلامية 1991م ـ 1995م.
وشارك في العديد من الندوات وورش العمل والمؤتمرات حول المصرفية الإسلامية.
كما أشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراة في مجال المصرفية الإسلامية.
وقد أثرى الغزالي الملقب بـ" أبو الاقتصاد الإسلامي" المكتبة العربية والإسلامية بالكثير من المؤلفات المتفردة في الاقتصاد الإسلامي, ومن أبرزها: الأرباح والفوائد بين التحليل الاقتصادي والحكم الشرعي, حول أساسيات المصرفية الإسلامية.
وكانت للفقيد الراحل آراؤه المتميزة إبان الأزمة المالية العالمية منذ ثلاثة أعوام من ضرورة اللجوء إلى حل الاقتصاد الإسلامي بدلاً من النظام المصرفي التقليدي الذي أدى حسب رأيه إلى حدوث تلك الأزمة التي عصفت بكبريات الاقتصاديات العالمية..
وقد كتب الدكتور عصام العريان عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين ونائب رئيس حزب الحرية والعدالة مقالاً ينعي فيه الدكتور عبد الحميد الغزالي جاء فيه:
لم يكن رحيله مفاجئًا, فقد عانى في السنتين الأخيرتين من مرض عُضال -لم يقعده عن المشاركة في النشاط العام- وكانت مشاركته وفرحته بثورة مصر 25 يناير, والحرية التي تمتع بها شعب مصر, هي آخر السطور التي سطرها في تاريخ مصر والمصريين والاقتصاد المصري, أستاذًا أكاديميًّا, وباحثًا اقتصاديًّا, وراعيًا لمراكز الدراسات والبحوث في البنوك الإسلامية, وناشطًا سياسيًّا في رحاب دعوة الحق والقوة والحرية.. دعوة الإخوان المسلمين.
عرفت أ. د. عبد الحميد الغزالي -في شهادة الميلاد "عبد المجيد" عن قرب- ثلاث سنوات في سجن المزرعة وملحق المزرعة بطره, عندما التحق بنا بعد عامٍ ونصفٍ, وتركنا بعد قضاء السنوات الثلاث كاملة, وهو أستاذ الجامعة الذي تتلمذ على يديه كثير من رجال الحكم, ولم يشفع له علمه, ولا سنه, ولا مكانته العلمية.
كُنَّا نُشفق عليه أثناء فترة السجن, وعلى آخرين, خاصة هؤلاء الذين لم يسبق لهم دخول السجن, ولم يخطر على بالهم أحيانًا هذا الاحتمال, وبعضهم تعوَّد على حياة رغدة؛ بسبب المكانة الاجتماعية أو العلمية.
كان صادقًا مع نفسه, ونحسبه صادقًا مع الله, مخلصًا له وجهه, متواضعًا رغم علمه, صارمًا في نظام حياته.
كُنَّا نتضاحك معه عندما يشترك في مجموعة خدمة المسجونين من الإخوان, ففي مجموعة الطعام يُصرُّ على تسمية الوجبات "بالمينيو" -أي قائمة الطعام- ثم يتحدث عن طبق اليوم, وفاكهة الموسم.
وكانت إحدى الأزمات التي غضب فيها هو وأهله أثناء زيارته في السجن, هي زيارة محجوزة عند "باب الجبل", وهو أول أبواب منطقة سجون طره (ب), وعندما ذهبتُ إلى مأمور السجن وضابط المباحث لأستطلع سبب غضب أهل د. عبد الحميد وأشقائه الذين قدموا من "الشهداء- منوفية" كان السبب مضحكًا؛ لقد أحضر الزوار "شوالاً" من الفول السوداني وزنه ثقيل, ولا يُسمح للزيارات إلا في حدود الاستخدام الشخصي أو ما يزيد قليلاً.
نجح تدخلنا في إنهاء المشكلة؛ حيث تمَّ توزيع الكمية على مجموع الزيارات في ذلك اليوم -حل وسط- لا بدَّ من الإبداع فيها حتى لا يتحمل الضباط والسجانة المسئولية عندما ينتقل الخبر إلى الجهات العليا؛ فيقال: هل هم مسجونون يتم عقابهم أم هم مبسوطون لدرجة التسلية بالفول السوداني, ومما يجب أن يعلمه القارئ؛ أن المسئول الذي قرر حبس مُعارِض يتابع حالته باستمرار, ويتدخل لاتخاذ القرارات البسيطة أحيانًا والخطيرة دائمًا في حياته لدرجة: كيف ينام؟ وأين ينام؟ وهل يتم نقله للعلاج إلى الخارج؟ والزيارة ومدتها؟.. إلخ.
وكُنَّا نتندر- أنا وأخويَّ الكريمان د. عبد المنعم أبو الفتوح, ود. إبراهيم الزعفراني- بسبب تأخر وصول الأسِرَّة المقررة لنا لمدة سنتين, ننام فيها على البلاط, رغم كل الموافقات, بأن السيد الرئيس لم يُعط التأشيرة بعد, وسيوقع عندما لا يتبقى من المدة إلا شهور قليلة!!.
وعندما خرج د. إبراهيم الزعفراني, ود. محمد وهدان وآخرون بعد قضاء 3 سنوات كاملة يوم 22/1/1998م, جلسنا ننتظر الأخبار, وكيف سيتم التعامل معهم؟ فكانت النتيجة عجيبة.
عادوا إلينا جميعًا بعد 24 ساعة, فقد احتجز وهدان بمقرِّ مباحث أمن الدولة بالإسماعيلية؛ ليعيده إلينا في الصباح دون رؤية أهله وأولاده.
أما د. الزعفراني, فقد صرفه الضابط قبيل صلاة المغرب في رمضان, فأفطر مع زوجته وأولاده, ثم صلى العشاء والقيام بالمسجد, وألقى كلمة في الحضور, ثم فوجئ بتليفون قبيل السحور بساعتين يطلب منه سرعة الحضور إلى المباحث من جديد؛ لأن التعليمات تغيرت, والضابط يخاف على نفسه من المسئولية, ولماذا تَصَرَّفَ من تلقاء نفسه؟ فأجابه الزعفراني بحسم: لن أعود إلا بعد تناول السحور مع أولادي الصغار وصلاة الفجر ووداعهم لأشرح لهم الموقف؛ لئلا يصابوا بصدمة عصبية ونفسية, وكان له ما أراد, ثم عاد إلينا سريعًا ضاحكًا مبتسمًا متهللاً كعادته, وسط وجوم الجميع, رغم محاولات التباسط, لكي تبدأ التحليلات الأمنية والسياسية التي توقفت كلها عند مشغولية الرئيس مبارك الذي لم يجد وقتًا للتأشير على قرارات الإفراج النهائية, وعندما علم مساعده ويده اليمني طالب بإعادة الوضع إلى ما كان عليه حتى يقرر الرئيس.
وخرج الزعفراني بقرار بعد أيام, أما د. وهدان فبقي حتى 18/3/1998م؛ لأن قرار اعتقال كان قد صدر له, وتمَّ تعذيبه ببشاعة على يد الضابط تامر عبد الوهاب قبل الخروج لأولاده.
كان برنامج الفقيد الراحل محددًا, وأبرز ما فيه هو الحرص الشديد على طابور الرياضة الصباحي, الذي يتضمن 3 فقرات ساخنة:
الأولى: طابور جري لمدة نصف ساعة تقريبًا.
الثانية: ألعاب سويدي شاقة لا يستطيع أحد أن يجاريه فيها, وفق نظام صارم لتدريب كل عضلات الجسم, من الرقبة حتى أصابع اليدين.
الثالثة: "ماتش إسكواش", وحتى لا يسرح بك الخيال لتتخيل أن هناك ملعب إسكواش بطره, سوف يستمتع به الرئيس السابق المُغرم بالإسكواش قبل المرض الخطير-شفاه الله- فقد كان الموجود فقط المضارب و"الكور", أما حائط الصد فكان حائط السجن دون ملعب.
المهم أنه كان يعود بعد ساعة ونصف تقريبًا في غاية النشاط والإقبال على البرنامج اليومي الذي يتضمن الإفطار, وجلسات الحوار, والصلوات, والفترات الحرَّة للقرآن والتسبيح والقراءة الحرَّة.
من اللطائف التي أذكرها لأخي الحبيب: موقفه في لجنة الامتحان الأولية للالتحاق بمعهد القراءات القرآنية بالأزهر الشريف, كان الامتحان في القرآن كله تحريريًّا, وفوجئت أنا ومحسن راضي بالدكتور يغادر حجرة الامتحان سريعًا دون إكمال الامتحان.
سألته بعدها فأجاب بصدق: كنت أتصور الأمر سهلاً, وقد حفظت القرآن هنا في السجن, وأكملته على يد الأخ الكريم الراحل العزيز م. محمد العدوي, الذي كان يقول بضحك: من لم يأخذ مني ختم الختم للقرآن لن أعترف بحفظه, وكانت المفاجأة أن الوحيد الذي اجتاز الامتحان هو من لم يأخذ منه الختم الرسمي, ورسب الآخرون.
خرج د. عبد الحميد من السجن ليتسلم مسئولية القسم السياسي, تحت إشراف المستشار محمد المأمون الهضيبي رحمه الله, ومعه فريق عمل متميز من أساتذة الجامعة والصحفيين والمتخصصين, ومعه الراحل الكريم الأخ العزيز عبد المنعم سليم جبارة كمساعد له.
عندما خرجت بعد سنة ونصف في يناير 2000م؛ التقيت الأستاذ المأمون والحاج مصطفى مشهور فسألني: أين أريد أن أعمل؟ وهل أعود إلى القسم السياسي؟ كنت أول الشباب الذين التحقوا باللجنة السياسية عام 1984م, ثم بالأمانة الفنية المساعدة للكتلة البرلمانية مع المغفور لهما فؤاد حجاج وكيل وزارة, ورشاد نجم الدين وكيل وزارة, وكان معي في اللجنة شباب واعد, أذكر منهم الآن مع حفظ الألقاب: حامد عبد الماجد القبيسي, ود. إبراهيم البيومي غانم, وهشام جعفر, وأحمد عبد الله, وياسر عبده, والأخير هو الوحيد الذي استمر في القسم, كباحث اقتصادي, ومفكر سياسي في الزهد والتواضع.
التحقت بالقسم عضوًا عاملاً, ثم نائبًا لرئيس القسم, ثم رئيسًا للقسم بعد اعتذار د. عبد الحميد الغزالي عام 2004م, والتحاق د. محمد مرسي- النائب الثاني لرئيس القسم- بمكتب الإرشاد, ووفاة الأخ العزيز عبد المنعم سليم جبارة.
كانت طريقة د. الغزالي يَغْلُب عليها طابعه الأكاديمي, وطريقة الاقتصاديين, وتبنيه لمفاهيم الاقتصاد الإسلامي, الذي كان من أبرز رواده, وسيُكتب اسمه في سجل الذين نظَّروا للنظريات الاقتصادية بمرجعية إسلامية, ودَرَست كتابه عن "النقود والبنوك", وتتلمذت على يديه في حوارات معمقة حول المشكلات التي تعاني منها البنوك الإسلامية, والمشاريع الاقتصادية الإسلامية وهي كثيرة, واختلفنا كثيرًا.
عمل د. عبد الحميد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة أستاذًا حتى وصل إلى درجة أستاذ متفرغ, أشرف فيها على مئات الدرجات العلمية للماجستير والدكتوراة -حصل على الدكتوراه في الاقتصاد من لندن على يد أكبر الأساتذة- وخرج إلى الميدان العملي ليعمل في مراكز الدراسات والبحوث في البنك الإسلامي للتنمية بجدة لسنوات طويلة, ثم أسس مركز دراسات للمصرف الإسلامي الذي شارك فيه بالقاهرة.
لم يعمل-فيما أعلم- في مجال الفتاوى بالبنوك, ولكن تخصصه كان في مجال الدراسات والبحوث.
لن أستطيع أن أوفي أخي د. عبد الحميد حقه في هذا المقال, الذي طال أكثر مما ينبغي, وخرج عن طبيعة المراثي, وأدعو إخوانه وأصدقاءه وتلاميذه إلى الكتابة عنه, وعن الجوانب المختلفة في حياته.
عزائي لأهله جميعًا.. بناته وأزواجهن وأولادهن, ولإخوته الكرام, ولأهل "ميت شهالة" بالشهداء جميعًا, الذين أحاطوه بالحب والتأييد عندما تقدم للترشيح للنيابة عنهم وتمثيلهم في المجالس النيابية, وعندما تقدم للترشيح في دائرة المنيل بالقاهرة كان عقابه أن يتم إدراجه في قضية "حزب الوسط" الشهيرة ليحصل على ثلاث سنوات بعد محاكمة عسكرية, بينما خرج وكيل المؤسسين, ولا يعرف أحد لماذا حُوكِم هؤلاء, ولماذا سُجن منهم من سُجن, وبعضهم كالحاج محمود أبو ريا, أو د. محمود العريني كانا فوق السبعين, ثم بُرِّئ من بُرِّئ كعصام حشيش وأبو العلا ماضي, وهما في سن الشباب, الله يخلق ما يشاء ويختار.
رحمك الله رحمة واسعة يا أخي وصديقي وأستاذي.. عبد الحميد الغزالي, عرفتك في أحوال شدتك: السجن والمرض, فكنت الصابر المحتسب الراضي بقضاء الله تعالى, الزاهد المتواضع, الخدوم لإخوانك, الواثق في رحمة الله وفرجه.
كانت وطأة المرض عليك قاسية, لم تتوقعها وأنت الرياضي الذي تمتع بصحة وعافية حتى سن الخامسة والستين, وزرتك بالمستشفى عندما بدأ العلاج الكيماوي تحت إشراف الأخ الحبيب أ. د. أحمد سليم, وسافرت إلى فرنسا وصحبك طبيبك أحمد سليم, وعدت واثقًا بقدرة الله على الشفاء, ولم تتأخر-رغم مرضك- عن مواصلة العمل والدعوة, وحضور مجلس الشورى, وزيارة مكتب الإرشاد, والكتابة للمجلات والصحف, والإشراف على الرسائل العلمية.
وداعًا يا أخي في الله..